مدونة الأستاذ الدكتور محمد محمود كالو


قطوف من شجرة الهجرة، (2) أ. د. محمد محمود كالو

الأستاذ الدكتور محمد محمود كالو | Prof. Dr. Mohamed KALOU


07/08/2023 القراءات: 519  


قطوف من شجرة الهجرة،
لقد كانت الهجرة حدثاً فارقاً في تاريخ الإسلام، وكانت الرحلة مليئة بالأحداث المهمة والدالة على تأييد الله تعالى لنبيه ولدعوته.
فحينما تبعه سراقة بن مالك رَضيَ اللهُ عنه -وهو يومَئذٍ على الكُفرِ- قال أبو بَكرٍ: أُتينا يا رَسولَ اللهِ، أي: أدرَكَنا هذا الفارسُ، فقال له النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: (لا تَحزَنْ، إنَّ اللهَ مَعَنا)، فدَعا عليه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فارتَطَمَت به فَرَسُه، أي: غاصَتْ به قَوائمُها إلى بَطنِها، في جَلَدٍ، أي: في صُلبٍ منَ الأرْضِ وجَوفِها، فقال سُراقةُ: إنِّي أظُنُّكُما قدْ دَعَوتُما عَلَيَّ حتَّى ارتَطَمَت بي فَرَسي، فادْعُوَا لي بالخَلاصِ، وتَعهَّدَ لهما أنْ يرُدَّ عنهما مَن يَبحَثُ عنهما ويَطلُبُهما، فدَعا له النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ فنَجا.
وذكر ابن حجر في الإصابة خبر الوعد الكريم لسراقة، عن الحسن أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قال لسراقة بن مالك: «كَيْفَ بِكَ إذا لَبِسْتَ سِوَارَيْ كِسْرَى؟» فقال سُراقة في دهشة: كسرى بنُ هُرمُز؟ فقال: نعم كِسرى بنُ هُرمُز.
فطلب سراقة من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتب له كتابًا بذلك، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عامر بن فهيرة أن يكتب له كتابًا على رقعة من جلد، وعاد سراقة يبعد الناس عن طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول لهم: قد كفيتكم هذا الطريق، وهكذا انطلق في الصباح جاهدًا في قتلهما، وعاد في المساء يحرسهما، تحوَّلَ من طارد إلى حارس أمين يضلل من يطارد المهاجر العظيم.
والذي أدهش سراقة كيف بإنسان ملاحق، ومهدور دمه، حيث جعلوا مئة ناقة لمن يأتي به حياً أو ميتاً، يقول له: يا سراقة كَيْفَ بِكَ إذا لَبِسْتَ سِوَارَيْ كِسْرَى؟ أي: سأصل يا سراقة إلى المدينة، وسأنشئ دولة، وسأؤسِّسُ جيشاً، وسأحارب أكبر دولتيْن في العالم، وسأنتصر عليهما، وسوف تأتيني الغنائم إلى هنا، ولك يا سراقة سوارَيْ كسرى.
ثمَّ دارَتِ الأيام وآلَ أمرُ المسلمين إلى الفاروقِ عمر رضيَ اللهُ عنه وهبَّتْ جيوش المسلمين في عهدهِ المبارك على مملكةِ الفرسِ كما يهُبُّ الإعصار، فطفِقَتْ تدُكُّ الحصون، وتهزُمُ الجيوشَ، وتَهُزُّ العُروشَ، وتُحْرِزُ الغنائِمَ، حتّى زالت دولةُ الأكاسِرة.
وفي ذاتِ يومٍ منْ أواخرِ أيامِ خِلافةِ الفاروق عمر رضيَ اللهُ عنهُ قدِمَ إلى المدينةِ مَبعوثو سعدِ بنِ أبي وقّاص رضي الله عنه يُبَشّرونَ خليفةَ المسلمينَ بالفتْحِ، ومعهم الغنائم ومن بينها سِوَارَيْ كِسْرَى، وهنا دعا الفاروقُ رِضوانُ اللهِ عليه سُراقة بن مالك وألبسه سواري كسرى، وكان سراقة رجلاً كثير شعر السّاعدين، فقال عمر: بخ بخ، [كلمةٌ تُقالُ عندَ التّعَجُّبِ منَ الشيء] أعَيْرابيٌّ مِنْ بني مُدْلِجٍ يلبس سوارَيْ كسرى؟! ارفع يديْك، وقل: الحمد للَّه الّذي سلبهما كسرى بن هرمز، وألبسهما سراقة الأعرابيّ.
ومما نقطفه من شجرة الهجرة، أن الركب المبارك مرَّ في طريقه بخيمة أم معبد فيسألها النبي صلى الله عليه وسلم الطعام فتقول: والله لو كان عندنا شيء ما أعوزكم القِرى والشاء عازب والسنة شهباء، ويلتفت عليه الصلاة والسلام وإذا شاة هزيلة في طرف الخيمة فيقول: ما هذه الشاة يا أم معبد؟ فتقول له: هذه شاة خلفها الجهد عن الغنم.
قال: أتأذنين أن أحلبها. قالت: نعم إن رأيتَ بها حلبًا.
فدعا صلى الله عليه وسلم بالشاة فمسح على ضرعها ودعا فتفجرت العروق باللبن، فسقى المرأة وأصحابه ثم شرب صلى الله عليه وسلم، ثم حلب لها في الإناء وارتحل عنها.
وفي المساء يرجع أبو معبد إلى زوجته وهو يسوق أمامه أعنزه الهزيلة.
ويدخل الخيمة وإذا اللبن أمامه، فيتعجب ويقول: من أين لك هذا؟ فتقول له: إنه مَرَّ بنا رجل مبارك كان من حديثه كيت وكيت، فقال: والله إني لأراه صاحب قريش الذي تطلبه، صفيه لي يا أم معبد، قالت: رجُلٌ ظاهِرُ الوَضاءةِ، أبلَجُ الوجهِ، حسَنُ الخَلْقِ، وَسيمٌ قَسيمٌ، في عينَيْهِ دَعَجٌ، وفي أشفارِهِ وَطَفٌ، وفي صوتِهِ صَحَلٌ، وفي عُنُقِهِ سَطَعٌ، وفي لحيتِهِ كثافةٌ، أَزَجُّ أقرَنُ، إنْ صمَتَ فعليهِ الوقارُ، وإنْ تكلَّمَ سَما وعلاهُ البهاءُ، أجملُ النَّاسِ وأبهاهُ مِن بَعيدٍ، وأحلاهُ وأحسنُهُ مِن قريبٍ، حُلْوُ المنطِقِ، فَصْلٌ لا نَزْرٌ ولا هَذَرٌ، كأنَّ منطِقَهُ خَرَزاتٌ نُظِمْنَ يتحدَّرْنَ، غُصنٌ بَينَ غُصنَيْنِ، فهُوَ أنضرُ الثلاثةِ مَنظرًا وأحسنُهُمْ قَدْرًا، لَهُ رُفقاءُ يحُفُّونَ بِهِ، إنْ قالَ أنصَتوا لقولِهِ، وإنْ أمَرَ تبادَروا إلى أمْرِهِ، مَحْفُودٌ مَجْشُودٌ، لا عابِسٌ ولا مُفْنِدٌ، قالَ أبو مَعْبَدٍ: فهذا واللَّهِ صاحِبُ قريشٍ، ولقَدْ همَمْتُ أنْ أَصْحَبَهُ، ولَأَفعَلَنَّ إنْ وجدتُ إلى ذلكَ سبيلًا.
وفي اليوم الثاني عشر من ربيع الأول وفي العام الرابع عشر من النبوة وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة سالمًا، لتبدأ بذلك مرحلة جديدة مهمة في مسيرة الدعوة الإسلامية.


الهجرة، أم معبد، الوضاءة، وسيم قسيم، حلو المنطق، خرزات نظم


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع