مدونة الأستاذ الدكتور محمد محمود كالو


عبادة الرضا، أ.د. محمد محمود كالو

الأستاذ الدكتور محمد محمود كالو | Prof. Dr. Mohamed KALOU


24/05/2023 القراءات: 399  


عبادة الرضا
بعد وقوع الزلزال المدمر سمعنا عن بعض الناس الجزع والحنق والتسخط والتشكي والتذمر والتأفف وعدم الرضا، ذلك لأنه يرى فيما حدث له ظلمًا قد وقع عليه، وأنه لا يستحقه، وسخطه هذا بمنزلة احتجاج واعتراض ورفض وعدم قبول لهذا القدر؛ لذا يلجأ بعضهم إلى السب والشتم والنواح ولطم الخدود والصدور مع كثرة البكاء، وهؤلاء ألسنتهم سليطة، وصدورهم ضيقة، ونفوسهم كئيبة، وقد لا يجرؤ أحدنا مواساتهم؛ لأنهم لا يقبلون إلا وصف أحوالهم بالبؤس والشقاء، وكل هذا ليس من خلق المسلم الصّابر المحتسب، بل المسلم الحق يرضى بقضاء الله وقدره، ويصبر ويحتسب، فما من مؤمن استسلم لقضاء الله تعالى، ورضي بالقدر؛ إلا هدى الله قلبه، وعوضه عما فاته من الدنيا، لأن الرضا من حسن الأدب مع الله تعالى، فلا ينبغي لعبد أنعم الله عليه بنعم كثيرة أن يعترض أو يتبرم من قضاء الله وقدره.
إن الرِّضا عن الله تعالى عبادةٌ قلبيَّة رفيعة الشَّأن، ودرجة إيمانيَّة عظيمة، ولكِنْ قليلٌ من يَصل إلى تلك الدَّرجة السامية السامقة، بل الرضا باب الله الأعظم؛ لذلك إذا أمعنا النّظر في سير الأنبياء والمرسلين والصّالحين لن نجدهم إلّا راضين عن الله تعالى وعن أقداره، ولا نجد نبيّاً يتسخّط على أمر الله تعالى، بل كلّهم يسارع في طلب رضا ربّه؛ فهذا كليم الله موسى عليه السلام يسرع السّير إلى الله طلباً ورغبةً في رضاه: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه: 84].
وكذلك نبي الله سليمان عليه السلام كان يسأل ربّه في دعائه الرّضا عن عمله وحاله: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النّمل: 19].
وهذا نبي الله زكريا عليه السلام يدعو ربّه أن يرزقه ولداً رضيّاً: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا. يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} [مريم: 5-6].
وهذا نبي الله إسماعيل عليه السلام مدحه الله سبحانه بأنّه كان رضيّاً: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} [مريم: 55].
فالسعيد الحق هو من رضي بما قسَم الله له، وصبَر لمواقع القضاء والقدر خيره وشره، وأحسَّ وذاق طعم الإيمان؛ كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ مَنْ رضي بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً ([رواه مسلم].
وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أن الغنى الحقيقي والسعادة والراحة في الرضا فقال: (وارضَ بما قَسَمَ اللهُ لكَ تكُنْ أغْنَى الناسِ ([رواه الترمذي وقال: صحيح].
ولقد كان سيّد الخلق نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم أرضى النّاس عن ربّه وعمّا قسم الله له، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعودٍ رضي الله عنه قَالَ: نَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى حَصِيرٍ فَقَامَ وَقَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوِ اتَّخَذْنَا لَكَ وِطَاءً، فَقَالَ: (مَا لِي وَلِلدُّنْيَا، مَا أَنَا فِي الدُّنْيَا إِلَّا كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا). [رواه التّرمذيّ]
فلم يكن صلى الله عليه وسلم يتسخّط أو يتذمر لأنّه لا يجد ما ينام عليه أو يأكله، بل كان أرضى النّاس.
فإذا أردت أن يرضى الله عنك فارضَ أنت عنه أوّلاً بالطّاعة والعبادة؛ فإن فعلت ذلك فقد رضي الله عنك، إذ الرّضا عن الله بوابةٌ لرضا الله عن عباده، قال الله عز وجل في وصف المتّقين: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التّوبة: 100].
والرّضا عن الله سببٌ لدخول الجنة، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يَقُولُ حِينَ يُصْبِحُ وَحِينَ يُمْسِي ثَلَاثَ مَرَّاتٍ: رَضِيتُ بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم نَبِيًّا، إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُرْضِيَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ). [مسند الإمام أحمد]
وفي الجنّة يحلّ الله تعالى رضوانه على أهله وعباده أهل الرّضا في الدّنيا؛ لأنّ الجزاء من جنس العمل، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ لِأَهْلِ الجَنَّةِ: يَا أَهْلَ الجَنَّةِ، فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ وَالخَيْرُ فِي يَدَيْكَ، فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لاَ نَرْضَى يَا رَبِّ وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، فَيَقُولُ: أَلاَ أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، فَيَقُولُونَ: يَا رَبِّ وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ، فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلاَ أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا). [رواه البخاريّ]
ولنعلم أن من أعظم ما يعين العبد على الرّضا والتّسليم أن يعلم العبد أنّه لا أحد يملك له من الله نفعاً ولا ضرّاً، بل كلّ ما في الكون بتقدير الله تعالى وإرادته، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ، لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ، لَمْ يَضُرُّوكَ إِلا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الْأَقْلامُ، وَجَفَّتِ الصُّحُفُ). [مسند الإمام أحمد].
وكذلك من المعين على الرّضا: القناعة بما قسَّم الله تعالى، فقد أخبرنا الصّادق المصدوق عن مالك الدّنيا بأسرها فقال: (مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، آمِنًا فِي سِرْبِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا). [رواه ابن ماجه]
هذه عبادة الرضا،


عبادة الرضا، الحنق، التسخط، التذمر، التأفف، عدم الرضا


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع