مدونة عبدالحكيم الأنيس


رؤوس أقلام (منوعات في العلم والأدب) (161)

د. عبدالحكيم الأنيس | Dr. Abdul Hakeem Alanees


03/03/2024 القراءات: 477  


-ابن عابدين والانتصار للإمام:
قال العلامة ابن عابدين:
«إنَّ الإمام - رضي الله عنه - لمّا شاعتْ فضائلُه، وعمَّت الخافقين فواضلُه، جرتْ عليه العادةُ القديمةُ مِنْ إطلاق ألسنة الحاسدين فيه، حتى طعنوا في اجتهاده، وعقيدته، بما هو مبرأ منه قطعًا، لقصد أنْ يطفئوا نور الله، ويأبى اللهُ إلا أن يتم نوره، كما تكلَّم بعضُهم في مالك، وبعضُهم في الشافعي، وبعضُهم في أحمد، بل قد تكلمتْ فرقةٌ في أبي بكر وعمر، وفرقةٌ في عثمان وعلي، وفرقةٌ كفرتْ كلَّ الصحابة:
ومَنْ ذا الذي ينجو من الناس سالمًا … وللناس قال بالظنون وقيلُ
وممن انتصر للإمام - رحمه الله تعالى -:
العلامة السيوطي في كتابٍ سمّاه "تبييض الصحيفة".
والعلامة ابن حجر في كتابٍ سمّاه "الخيرات الحسان".
والعلامة يوسف بن عبد الهادي الحنبلي في مجلدٍ كبيرٍ سمّاه "تنوير الصحيفة".
وذَكر فيه عن ابن عبدالبر: لا تتكلمْ في أبي حنيفة بسوء، ولا تصدقن أحدًا يسيء القول فيه، فإني والله ما رأيتُ أفضلَ ولا أورعَ ولا أفقهَ منه.
ثم قال: ولا يغتر أحدٌ بكلام ‌الخطيب، فإنَّ عنده العصبية الزائدة على جماعة من العلماء كأبي حنيفة، والإمام أحمد، وبعض أصحابه، وتحامل عليهم بكلِّ وجهٍ.
وصنَّف فيه بعضهم ‌"السهم ‌المصيب في كبد ‌الخطيب".
وأمّا ابن الجوزي فإنه تابع ‌الخطيبَ، وقد عجب سبطُه منه حيث قال في "مرآة الزمان": وليس العجبُ من ‌الخطيب فإنه طعنَ في جماعةٍ من العلماء، وإنما العجبُ من الجدِّ كيف سلك أسلوبَه وجاء بما هو أعظم.
قال: ومن المتعصبين على أبي حنيفة الدارقطني، وأبو نُعيم، فإنه لم يذكره في "الحلية"، وذكرَ مَن دونه في العلم والزهد اهـ.
وممن انتصر له العارفُ الشعراني في "الميزان" بما يتعين مطالعتُه.
قال في "الخيرات الحسان": وبفرض صحة ما ذكره ‌الخطيب من القدح عن قائله فلا يعتد به، فإنه إن كان من غير أقران الإمام فهو مقلد لما قاله أو كتبه أعداؤه، أو من أقرانه فكذلك؛ لأن قول الأقران بعضهم في بعض غير مقبول، كما صرح به الذهبي، والعسقلاني، قالا: ولا سيما إذا لاح أنه لعداوة أو لمذهب؛ إذ الحسد لا ينجو منه إلا من عصمه الله تعالى.
قال الذهبي: وما علمت أن عصرًا سلم أهله من ذلك إلا عصر النبيين - عليهم الصلاة والسلام - والصديقين.
وقال التاج السبكي: ينبغي لك أيها المسترشدُ أن تسلكَ سبيلَ الأدب مع الأئمة الماضين، ولا تنظر إلى كلام بعضهم في بعض، إلا إذا أتى ببرهان واضح.
ثم إنْ قدرتَ على التأويل وتحسينِ الظن فدونك، وإلا فاضربْ صفحًا، فإياك ثم إياك أن تصغي إلى ما اتفق:
بين أبي حنيفة وسفيان الثوري.
أو بين مالك وابن أبي ذئب.
أو بين أحمد بن صالح والنسائي.
أو بين أحمد والحارث المحاسبي.
وذكرِ كلامِ كثيرين من نظراء مالك فيه.
وكلامِ ابن معين في الشافعي.
قال: وما مثل مَنْ تكلم فيهما وفي نظائرهما إلا كما قال الحسن بن هانئ:
يا ناطح الجبل العالي ليكلمه … أشفقْ على الرأس لا تشفق على الجبلِ
اهـ ملخصًا.
وقد أطال في ذلك، وفي ذكر مَنْ أثنى على الإمام من أئمة السلف وممن بعدهم، وما نقلوه مِنْ سعة علمه وفهمه وزهده وورعه وعبادته واحتياطه وخوفه، وغير ذلك ممّا يستدعي مؤلفات.
وما يُنسب إلى الإمام الغزالي يردُّه ما ذكره في "إحيائه" المتواتر عنه حيث ترجم الأئمة الأربعة وقال: وأما أبو حنيفة فلقد كان أيضا عابدًا زاهدًا عارفًا بالله تعالى، خائفًا منه، مريدًا وجه الله تعالى بعلمه إلخ.
أقول: ولا عجبَ مِنْ تكلُّم السلف في بعضهم، كما وقع للصحابة، لأنهم كانوا مجتهدين، فينكر بعضُهم على مَنْ خالف الآخر، سيما إذا قام عنده ما يدل له على خطأ غيره، فليس قصدُهم إلا الانتصار للدين لا لأنفسهم، وإنما العجبُ ممَّن يدعي العلمَ في زماننا ومأكلُه ومشربُه وملبسُه وعقودُه وأنكحتُه وكثيرٌ من تعبداتهِ يقلد فيها الإمام الأعظم ثم يطعنُ فيه وفي أصحابه! وليس مثله إلا كمثل ذبابة وقعتْ تحت ذنب جواد في حالة كرِّه وفرِّه.
وليت شعري لأي شيء يصدق ما قيل في أبي حنيفة ولا يصدق ما قيل في إمام مذهبه، ولم لا يقلد إمام مذهبه في أدبه مع هذا الإمام الجليل؟ فقد نقل العلماء ثناء الأئمة الثلاثة على أبي حنيفة وتأدبهم معه ولا سيما الإمام الشافعي - رضي الله تعالى عنه -، والكاملُ لا يصدر منه إلا الكمالُ، والناقصُ بضده. ويكفي المعترضَ حرمانُه بركةَ مَن يعترض عليه، أعاذنا الله من ذلك، وأدامنا على حبِّ سائر الأئمة المجتهدين، وجميع عباده الصالحين، وحشرنا في زمرتهم يوم الدين.
ومما رُوي من تأدبه معه أنه قال: إني لأتبركُ بأبي حنيفة وأجيء إلى قبره، فإذا عرضتْ لي حاجة صليتُ ركعتين وسألتُ الله تعالى عند قبره فتُقضى سريعًا. [قلت: يُنظر سند هذا القول].
وذَكر بعضَ من كتب على المناهج أن الشافعي صلى الصبح عند قبره فلم يقنتْ، فقيل له: لم؟ قال: تأدبًا مع صاحب هذا القبر. وزاد غيره أنه لم يجهر بالبسملة. [قلت: يُنظر مستند هذا القول أيضًا].
وأجابوا عن ذلك بأنه قد يعرض للسُّنة ما يرجح تركها عند الاحتياج إليه كرغم أنف حاسد، وتعليم جاهل، ولا شك أن أبا حنيفة كان له حساد كثيرون، والبيان بالفعل أظهر منه بالقول، فما فعله الشافعي - رضي الله تعالى عنه - أفضل من فعل القنوت والجهر.
أقول: ولا يخفى عليك أنَّ ذلك الطاعن الأحمق طاعنٌ في إمام مذهبه، ولذا قال [الشعراني] في "الميزان": سمعتُ سيدي عليًّا الخواص - رحمه الله تعالى - مرارًا يقول: يتعينُ على أتباع الأئمة أن يعظموا كل مَنْ مدحه إمامُهم؛ لأن إمام المذهب إذا مدح عالمًا وجب على جميع أتباعه أن يمدحوه تقليدًا لإمامهم، وأن ينزهوه عن القول في دين الله بالرأي.
وقال أيضًا: لو أنصف المقلِّدون للإمام مالك والشافعي لم يضعفْ أحدٌ منهم قولًا مِن أقوال أبي حنيفة بعد أن سمعوا مدح أئمتهم له، ولو لم يكن من التنويه برفعة مقامه إلا كون الإمام الشافعي - رضي الله تعالى عنه - ترك القنوت في الصبح لمّا صلى عند قبره لكان فيه كفاية في لزوم أدب مقلِّديه معه. اهـ» .
***


منوعات


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع