مدونة الباحث/محمد محمد محمود إبراهيم


من حكم الله الباهرة وآياته الظاهرة التي تبطل عمل المفسدين(1)

باحث /محمد محمد محمود إبراهيم | MOHAMED MOHAMED MAHMOUD IBRAHIM


22/01/2023 القراءات: 469  


ونشأ عن ذلك اجتناب المحرمات كلها، وتوقي الشبهات حذرًا من الوقوع في المحرمات، وإن كان القلب فاسدًا قد استولى عليه اتباعُ الهوى، وطلبُ ما يحبه -ولو كرهه الله- فسدت حركات الجوارح كلها، وانبعثت إلى كل المعاصي والمشتبهات بحسب اتباع هوى القلب، ولهذا يقال: القلب ملك الأعضاء، وبقية الأعضاء جنوده، وهم مع هذا جنود طائعون له منبعثون في طاعته وتنفيذ أوامره، لا يخالفونه في شيء من ذلك.
والحاصل أنه يمكن الاستدلال على صلاح القلب أو فساده بمدى ما تظهره جنوده من الانقياد لشرائع الِإسلام، فلا يتصور قلب صالح عامر بالعلم والِإيمان ينضح منه معاندة الشرع، إذ إن الظاهر عنوان الباطن ودليل صلاحه أو فساده - فاللحية مثلًا من الجسد الذي هو مرآة القلب فمن استأصلها بغير عذر محتجًّا بصلاح قلبه كذَّبه ظاهرُه، ومن امتثل أوامر الشرع بإعفائها؛ كانت قرينة ظاهرة في الدنيا على امتثاله لشرع الله في الظاهر، وحسابه على الله في الآخرة.
والله نسأل أن يجعل سرائرنا أصلح من ظواهرنا، وهو وحده ولي التوفيق.
وأما استدلالهم بقوله - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم " فهو حق يراد به باطل، بل هو حجة عليهم لا لهم؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يقل: " ولكن ينظر إلى قلوبكم " حتى عطف عليها " وأعمالكم " يعني التي تنبثق من تلك القلوب، والتي لا بد أن تكون صالحة موافقة لمرضاة الله عز وجل مرجوًّا بها وجهُه سبحانه وقد قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} (2).
ولا شك أن هذا الأسلوب في فهم النصوص هو وحده الكفيل بأن يسد الباب في وجه الزنادقة والملاحدة الذين يتحصنون وراء دعوى حسن النية ويرتكبون المخالفات الشرعية {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ} (1)، ويضربون بالأحكام الظاهرة التي هي شعائر الِإسلام وأعظم أركانه كالصلاة والزكاة والصيام والحج وغيرها عُرْضَ الحائط دون أن ينكر عليهم منكِر، وإلا لزم أيضًا نسبة التناقض إلى الشرع المنزه، حيث تنبنى أحكامه على ما يظهره الناس في دار الدنيا، ثم تهدر هذه الشرائع بحجة حسن نية من أهدروها - وهذا ما لم يفعله المنافقون في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنهم كانوا يصلون معه ويحجون معه ويجاهدون معه، وكانوا يتناكحون ويتوارثون مع المسلمين، وكان المسلمون يصلون عليهم، ويدفنونهم معهم أخذًا بما يُظهرونه، ثم نقول: أليس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي نطق بالنصوص التي تدل على أهمية النية هو الذي نطق بالنصوص التي فيها اعتبار الظاهر {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (2) - صلى الله عليه وسلم - وصدق الله تعالى إذ قال: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (3).
وإذا كانت النصوص السابقة قد أسست فكرة الارتباط بين الظاهر والباطن فإن هناك جملة من النصوص قد فصَّلت هذه الفكرة، وأثبتت تأثير كل منهما في الآخر:
منها ما رواه النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسوى صفوفنا حتى كأنما يُسوِّي بها القِداحَ (4)، حتى رأى أنا قد عَقَلْنا عنه، ثم خرج يومًا فقام حتى كاد يكبر، فرأى رجلًا باديًا صدرُه من الصف، فقال: " عبادَ الله! لَتُسَوُّنَّ صفوفَكم، أو ليخالِفَنَّ الله بين وجوهكم ") وفي روارة: " قلوبكم " (1) فأشار - صلى الله عليه وسلم - إلى أن الاختلاف في الظاهر ولو في تسوية الصف مما يوصل إلى اختلاف القلوب، فدل على أن للظاهر تأثيرًا في الباطن، ولذلك كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ينهي عن التفرق حتى في جلوس الجماعة، فقد قال جابر بن سمرة رضي الله عنه:
(خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرآنا حِلَقًا، فقال: " ما لي أراكم عِزِين؟ " (2)).
وعن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه قال: (كان الناس إذا نزلوا منزلًا تفرقوا في الشعاب والأودية، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن تفرقكم في هذه الشعاب والأودية إنما ذلكم من الشيطان "، فلم ينزلوا بعد ذلك منزلًا إلا انضم بعضهم إلى بعض، حتى يقال: "لو بُسِطَ عليهم ثوب لَعَمَّهم" (3)).
ومما يقوي اعتبار الظاهر ما تقرر في الشريعة من وجوب مخالفة الكفار وتحريم التشبه بهم، وما تقرر أيضًا من تحريم تشبه الرجال بالنساء والعكس، بل تُوُعِّدَ فاعلُ ذلك باللعن، ولا شك أن المشاركة في الظاهر توجب الاختلاط الظاهر بين المؤمنين والكافرين، وهذا مما حرص السلف على تجنبه، وهو واضح من سلوكهم مع أهل الملل في البلاد التي فتحوها، حتى كانوا يشترطون في عقد الذمة ألا يتزيا المشركون بزي المسلمين.
وطريق الهدى أن نصلح الظاهر والباطن: نصلح ظاهرنا باتباع السنة، وباطننا بدوام مراقبة الله تعالى، ولا ندع العمل الصالح حذر الرياء، ولا نعمله رئاء الناس، والله الموفق.
***


من حكم الله الباهرة وآياته الظاهرة التي تبطل عمل المفسدين(1)


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع