مدونة الأستاذ الدكتور محمد محمود كالو
الحج مؤتمر السلم العالمي (2)
الأستاذ الدكتور محمد محمود كالو | Prof. Dr. Mohamed KALOU
12/07/2024 القراءات: 152
فريضة ذات مفهوم سلمي شديد التركيز، وهو مفهوم يتكون من عدة أبعاد مهمة في الحج، هي:
أولاً: البُعْدُ الزماني:
فالحج فريضة مؤقتة بزمان خاص، وفي شهر خاص، هو شهر ذي الحجة وهو أحد الأشهر الحرم، ويتوسط شهرين آخرين منها: هما ذو القعدة ومحرم، والرابع منها هو شهر رجب، وهي الأشهر التي حرم الإسلام القتال فيها.
وتحريم القتال في هذه الأشهر على المسلمين، وإلزامهم قبل غيرهم به يمثل محاولة رائعة لتجفيف دواعي الحرب، وتنشيط أسباب السلام في المجتمع الإنساني، لفترة زمنية تساوي ثلث السنة، يقضيها المجتمع الإسلامي في عملية تربوية إيجابية، هدفها السلام من خلال جانبين: الأول سلبي: وهو التخلي عن دواعي الحرب. وذلك بتحريمها في هذه الأشهر، والثاني إيجابي: وهو التحلي بروح السلم، واحترام الأمن، وحق الحياة للآخرين، وذلك عبر الأبعاد السلمية الأخرى في الحج الذي تهيمن أجواؤه النفسية الايجابية على المجتمع الإسلامي كله مدة انشغاله بالحج، منذ الأيام الأولى لسفر الحجاج إلى الديار المقدسة وحتى أيام عودتهم إلى أوطانهم.
فمبدأ الأشهر الحرم يجسد نزعة سلمية عميقة لا تجعل الإسلام يكتفي من مجتمعه بأن يكون مسالماً ومحافظاً على الأمن فحسب، بل لابد له من أن يكون قدوة وداعية في هذا المجال، انسجاماً مع القاعدة التوحيدية الكبرى التي يقوم عليها هذا المجتمع، والتي تجعله ركيزة السلم في المجتمع الإنساني كله، فحيث ينحصر التوحيد الحقيقي بالمجتمع الإسلامي يكون هذا المجتمع قاعدة السلم في المجتمع الإنساني.
من هنا فإن مبدأ الأشهر الحرم يمثل دعوة إلى إقامة نظام أمني عالمي، فإن التمسك بهذا المبدأ من طرف واحد مهما كان شديداً، لا يحقق الهدف المطلوب، فلابد من إقامة التزام دولي متبادل بهذا المبدأ.
وهكذا فإن الإسلام أوقف مجتمعه على أرقى درجة يمكن أن يلتزمها لصالح السلم، فيما علق درجة التحريم المطلق للحرب في الأشهر الحرم على ظهور نظام أمني عالمي تتبادل فيه الأطراف الدولية المختلفة الاحترام لمبدأ الأشهر الحرم.
ولذلك أجاز للمسلمين القتال في هذه الأشهر إذا كانوا في حالة دفاعية، أو كان خصمهم ممن لا يرى لهذه الأشهر حرمة، وهما شرطان ينسجمان تماماً مع ذلك المبدأ، لأنها يتفقان معه على محاربة العدوان، وتضييق فرصه، فليس من مفهوم السلم، بل مما يخالف السلم أن يمنع المظلوم من استرداد حقه، أو يقال لأحد طرفي النزاع: كُفَّ عن القتال في هذه الأشهر، واسمح لعدوك أن يقضي عليك فيها، فإنها بهذه الصورة ستكون أشهر العدوان، لا أشهر الحُرُم.
وهكذا فإن مبدأ الأشهر الحُرُم هو مبدأ المسلمين الدائم حتى يثبت عدم إيمان العدو به، لذلك قال الله تعالى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) [البقرة: 194].
فكما لا حرمة لدم القاتل ظلماً وعدواناً لهدره حرمة دم المقتول، كذلك لا يمكن التزام حرمة شهر لا يرى العدو حرمة له، ويجوز الاعتداء على المعتدي دون مجاوزة حد القصاص العادل، أو تشتط بكم نزعة الانتقام إلى حدود الظلم؛ فإن الشر لا يعالج بالشر.
ويبقى الإسلام يوالي تأكيداته على المسلمين لكي يبقوا قاعدة للأمن والسلم في الأرض، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ} [المائدة:2].
لأن مبدأ الأشهر الحرم نابع من قيمومة هذا الدين على الناس، وهيمنته على شؤونهم، وصلاحيته لقيادة حياتهم، قال الله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 36]
وبما أن هذا المبدأ لا تكمن أهميته في نفسه فقط، كقانون دولي، وإنما مرتبط بفريضة الحج التي تمنحه الفاعلية والقدرة على التأثير من خلال المحتوى الروحي لهذه الفريضة؛ لذلك فقد شنّ القرآن الكريم حملة شعواء على المشركين لتصرفهم في الحكم الشرعي من خلال النسيء الذي كانوا يقومون به، إذ كانوا يستبيحون حرمة أحد الأشهر الحرم، ويعوضون عن ذلك بإسباغ الحرمة على شهر آخر يختارونه، فلا يقاتلون فيه قال الله تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [التوبة: 37]، فما أحرى العالم اليوم أن يتمثل خطى الإسلام، ويجعل مبدأ الأشهر الحرم قاعدة من قواعد الحياة الدولية فيه، لكي ينعم بالسلم في ثلث حياته، ويوفر على نفسه الإمكانات الجيدة لمعالجة قضايا السلم في الثلثين الآخرين منها.
الحج، مؤتمر السلم، السلام، البعد الزماني، النسيء
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع