مدونة د. محمد سلامة الغنيمي


نحو رؤية متكاملة لجودة التعليم: توازن بين المعايير المادية والقيم الإنسانية

د. محمد سلامة غنيم | Dr. Mohammed Salama Ghonaim


20/02/2025 القراءات: 6  



في سعيها لتحقيق جودة التعليم والاعتماد الأكاديمي، اتجهت العديد من الهيئات إلى استيراد النماذج التقييمية الغربية، وعلى رأسها النظام الأمريكي، الذي يقوم على معايير كمية تركز على قياس المدخلات والإجراءات الشكلية، مثل عدد التقارير المقدمة ومدى توافق البنية التحتية مع المواصفات الفنية. غير أن هذا النهج التقييمي أغفل عنصرًا جوهريًّا يتمثل في مراعاة الفروقات الفلسفية والثقافية بين المجتمعات، مما أفرز إشكالات عميقة في تطبيق هذه المعايير دون تكييفها مع الرؤى التربوية المحلية.

فالنظام الأمريكي – في جوهره – ينبثق من الفلسفة البراغماتية التي تقيس قيمة كل شيء بمنفعته المادية المباشرة، وتسعى إلى "تسليع" التعليم وتحويله إلى سلعة قابلة للقياس الكمي، متناسيةً أن التعليم في العديد من الحضارات – وعلى رأسها الحضارة الإسلامية – يُعد آليةً لتحقيق العمران الشامل، الذي يجمع بين إصلاح الأرض وتربية الإنسان على القيم الوجدانية والأخلاقية. وهذا ما أكده القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ (هود: 61)، حيث ربط بين التعليم واستخلاف الإنسان في الأرض لتحقيق التوازن بين التقدم المادي والسمو الروحي.

ومع أن معايير الجودة الحالية تُعد أداةً مفيدة لضمان الحد الأدنى من الكفاءة الإدارية، إلا أنها تظل قاصرةً عن تقييم الجوانب النوعية للعملية التعليمية، مثل أثر المناهج في بناء الشخصية، أو مدى تعزيزها للقيم المجتمعية، أو قدرتها على تنمية التفكير النقدي والإبداعي. ولعل النموذج الأمريكي نفسه – رغم تطوره التقني – يقدم دليلًا على هذا القصور، حيث أنتج تعليمًا يُعلي القيمة المادية على حساب الأبعاد الإنسانية، فظهرت أجيال بارعة في الصناعة والتكنولوجيا، لكنها فشلت في تحقيق الاستدامة البيئية أو ضمان العدالة الاجتماعية، بل أسهمت في انتشار التلوث وتصميم أسلحة الدمار، مما يعكس غياب البعد الأخلاقي في فلسفة التعليم.

ولتجاوز هذه الإشكالية، ينبغي تطوير نموذجٍ عربيٍّ أصيلٍ لجودة التعليم، يقوم على مرتكزين متكاملين:
1. المرتكز المادي: بتبني أفضل الممارسات العالمية في ضمان الكفاءة الإدارية، والشفافية، وتطوير البنية التحتية.
2. المرتكز القيمي: بإدماج مؤشرات نوعية تقيس أثر التعليم في تعزيز الهوية، وغرس القيم الأخلاقية، وتنمية الشعور بالمسؤولية تجاه المجتمع والبيئة.

كما يتطلب ذلك تفعيل أدوات تقييم ديناميكية ترصد نواتج التعلم طويلة المدى، مثل مدى إسهام الخريجين في حل المشكلات المجتمعية، أو التزامهم بالمبادئ الأخلاقية في حياتهم المهنية. وفي هذا الإطار، يمكن الاستفادة من تجارب دول كاليابان وفنلندا التي نجحت في المزج بين التميز الأكاديمي والتنشئة على القيم الجماعية.

ختامًا، فإن ضمان جودة التعليم لا يعني تبنّي نموذجٍ عالميٍّ جاهز، بل تطوير رؤيةٍ تربويةٍ متوازنةٍ تنطلق من الخصوصية الثقافية، وتستلهم تجارب الآخرين دون ذوبان، وتجعل من التعليم أداةً لصناعة الإنسان القادر على العمران المادي والأخلاقي، تحقيقًا لحكمة الخالق في استخلاف الإنسان في الأرض.


تربية، فكر، نهضة


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع