مدونة الباحث/محمد محمد محمود إبراهيم


✍️{فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّنًا}

باحث /محمد محمد محمود إبراهيم | MOHAMED MOHAMED MAHMOUD IBRAHIM


31/12/2022 القراءات: 544  


✍️{فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّنًا}
قال تعالى لموسى وأخيه هارون عليهما السلام عندما وجّههما إلى فرعون:
{اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}.
كلَّفهما الله سبحانه الذهاب إلى فرعون، وزوَّدهما بالزاد الذي يمكِّنهما من أداء الواجب والقيام بالتكليف " ولا تَنِيَا في ذِكري "، أي لا تُقصرا في ذكري، ولا تفتُرا عنه -لأن الونى هو الفتور والتقصير- فذكْر الله العظيم الجبار يزيل أي خوف من فرعون الطاغية المتجبِّر.
وأمرهما الله أن يقولا له: {قَوْلاً لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}.
ويقف بعض المسلمين في هذا الزمان أمام هذا الأمر الإلهي، فلا يفهمونه حق فهمه، بل يحرفون معناه، ويجعلونه وثيقة إدانة ضد الدعاة الجريئين، والخطباء الصريحين، والعاملين الصادقين، الذين يجهرون بالحق أمام المسؤولين، فينصحون ويذكِّرون وينكرون. إنهم يتَّهمون هؤلاء بمخالفة هذا الأمر، وأنهم لا يقولون للمسؤولين قولاً ليناً، بل قولاً عنيفاً شديداً قاسياً منفراً، ينفرهم من الطاعة بدل أن يقربهم منها.
ويقدم هؤلاء الناصحون النصائح للدعاة، بوجوب مراعاة القول الليِّن في خطاب المسؤولين، ويفسرون لهم القول اللين تفسيراً خاصاً خاطئاً:
إن القول اللين يتمثل في السكوت عن مخالفات المسؤولين ومنكراتهم ومفاسدهم، وغض النظر عن الممارسات والسلوكيات الخاطئة التي يقومون بها. القول اللين يعني: إذا شاركهم في مجلس أو حفلة أو لقاء أو اجتماع، وجرت فيه منهم مخالفات ومنكرات، أن يصمت الدعاة، وكأنهم لم يروا ولم يسمعوا ولم يلاحظوا. القول اللين يعني: إذا فكر هؤلاء في الكلام والتذكير، فليكن بأخفض صوت وألينه وأضعفه، وبلهجة بسيطة ذليلة، تُخرج النصيحة الخافتة والتذكير الميت، بسيل من الثناء والمدح والإشادة.
أما إذا وقف الداعية أمام المسؤول برجولةٍ وثبات، وأنكر عليه مخالفاته ومنكراته بوضوحٍ وتحديد، وقال كلمة الحق بجهرٍ وجرأةٍ وشجاعة، وذكّره بالواجب بإقدامٍ وثبات، إذا فعل هذا فقد خالف الأمر الوارد في الآية، وما قال لهذا المسؤول قولاً ليناً.
ويورد هؤلاء الناصحون مثالاً على هذا الفهم بما جرى أمام الخليفة العباسي المأمون: حيث يروون أنه قدم أحد العلماء الدعاة الرجال على المأمون، فذكَّره بالله ووعظه ونصحه، وأنكر عليه مخالفات قام بها، بجرأة وشجاعة وثبات. فقال له المأمون: يا هذا إنك خالفت أوامر الله، إن الله أرسل من هو خير منك إلى من هو شرٌّ مني. أرسل موسى إلى فرعون، فقال له: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّنًا}.
فما هو القول اللين؟ وكيف قدمه موسى عليه السلام لفرعون؟ وماذا فهم الدعاة السابقون؟ وماذا نستفيد نحن من ذلك؟
علَّلت الآية الحكمة من القول اللين لفرعون: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}، فالقول اللين يرقق القلوب، ويزيل ما فيها من جفوةٍ وإنكار، ويحطم الحاجز النفسي بين الداعية والمدعو، فيقترب المدعو كثيراً، ويستعدّ لقبول دعوته ونصائحه وتذكيره. لعله يتذكر أو يخشى.
ولقد أمر الله موسى عليه السلام في موطن آخر يقوله: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى}.
هل لك: بهذا الحث والتحضيض والترغيب، بهذا الأسلوب اللين المؤثر. هل لك في التزكية والطهارة والخير والفضيلة والسعادة والحياة.
ولقد نفَّذ موسى عليه السلام أمر الله، وقال لفرعون قولاً ليناً، ورغَّبه في الإِيمان والتزكية، وعرَّفه على الله سبحانه.
ولكن فرعون رفض الدعوة وهدَّد موسى عليه السلام، وتحدَّاه بالسحرة، واتَّهمه بالباطل. وموسى عليه السلام جريء صريح، ويقول له القول اللين.
قال موسى عليه السلام لفرعون قولاً ليِّناً عندما قال له: {هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى}.
ولم يخرج موسى عليه السلام عن القول اللين، وهو يحاور فرعون هذا الحوار الدعوي، ويقدم له نفسه بشجاعة وجرأة وصراحة، ويقدم له دعوته بصفاء وبيان وتحديد:{قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19) قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22) قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ}.
هل تريد بياناً للدعوة أوضح من هذا البيان؟ وهل تريد جرأةً وشجاعةً وثباتاً أصدق من هذا؟ وهل تريد قولاً ألين من هذا القول؟ ولكنه لينٌ مع الوضوح والحسم والجزم والتحديد، وهل تريد لهجةً أصدق وأثبت من هذه اللهجة؟.
هكذا يكون القول اللين. ويا ليت الناصحين يوضحون هذا للآخرين.


✍️{فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّنًا}


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع