مدونة الباحث/محمد محمد محمود إبراهيم


«إنما أنا بشر أغضب كما يغضب البشر، ...

باحث /محمد محمد محمود إبراهيم | MOHAMED MOHAMED MAHMOUD IBRAHIM


06/06/2023 القراءات: 417  


لكن قد يقال: هذا الحديث لا يدل على تحريم اللعنة، وإنما يدل أنه يفعلها باجتهاده بالتعزير فجعل هذا الدعاء دافعا عمن ليس لها بأهل، وإما أن يقال: اللعن من النبي - صلى الله عليه وسلم - ثابت بالنص فقد يكون اطلع على عاقبة الملعون، وقد يقال: الأصل مشاركته في الفعل، ولو كان لا يلعن إلا من علم أنه من أهل النار لما قال: «إنما أنا بشر أغضب كما يغضب البشر، فأيما مسلم سببته، أو شتمته، أو لعنته فاجعل ذلك له صلاة وزكاة وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة» .
فهذا يقتضي أنه كان يخاف أن يكون لعنه بما يحتاج أن يستدرك بما يقابله من الحسنات، فإنه معصوم، والاستدراك بهذا الدعاء يدفع ما يخافه من إصابة دعائه لمن لا يستحقه، وإن كان باجتهاد، إذ هو باجتهاده الشرعي معصوم لأجل التأسي به.
وقد يقال: نصوص الفعل تدل على الجواز للظالم كما يقتضي ذلك القياس، فإن اللعنة هي البعد عن رحمة الله، ومعلوم أنه يجوز أن يدعى عليه من العذاب بما يكون مبعدا عن رحمة الله عز وجل في بعض المواضع كما تقدم، فاللعنة أولى أن تجوز، والنبي - صلى الله عليه وسلم - إنما نهى عن لعن من علم أنه يحب الله ورسوله، فمن علم أنه مؤمن في الباطن يحب الله ورسوله لا يلعن؛ لأن هذا مرحوم بخلاف من لا يكون كذلك انتهى كلامه.
وفي الصحيحين عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: «استأذن رهط من اليهود على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: السام عليكم، فقالت عائشة - رضي الله عنها -: عليكم السام واللعنة. فقال: يا عائشة إن الله تعالى يحب الرفق في الأمر قالت: ألم تسمع ما قالوا؟ قال: قد قلت: وعليكم» وللبخاري في رواية: «إن الله رفيق» ، وفيهما أيضا «أن عائشة قالت: بل عليكم السام والذام، فقال: يا عائشة لا تكوني فاحشة. فقلت: ما سمعت ما قالوا؟ فقال: أوليس قد رددت عليهم الذي قالوا؟ قلت: وعليكم» .
وفي لفظ «مه يا عائشة فإن الله لا يحب الفحش والتفحش» وأنزل الله عز وجل: {وإذا جاءوك حيوك} [المجادلة: 8] .
الذام بالذال المعجمة، وتخفيف الميم الذم روي بالدال المهملة، ومعناه الدائم. وللبخاري عن عائشة - رضي الله عنها - «أن يهود أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: السام عليكم، فقالت عائشة: عليكم لعنة الله وغضب الله عليكم. قال: مهلا يا عائشة عليك بالرفق، وإياك والعنف والفحش» ولهما أو لمسلم من حديث جابر «إنا نجاب عليهم، ولا يجابون علينا» قال في شرح مسلم فيه الانتصار من الظالم، وفيه الانتصار لأهل الفضل ممن يؤذيهم انتهى كلامه.
والاستدلال بهذا الخبر في جواز لعنة المعين وعدمه محتمل.
وللبخاري من حديث عمر - رضي الله عنه - «أن رجلا كان اسمه عبد الله، وكان يلقب حمارا، وكان يضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد جلده في الشراب فأتي به يوما فأمر به فجلده. فقال رجل من القوم: اللهم العنه ما أكثر ما يؤتى به؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا تلعنوه فوالله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله» خرجه البخاري في باب ما يكره من لعن شارب الخمر، وإنه ليس بخارج عن الملة، فهذا ظاهر الدلالة.
ولمسلم من حديث بريدة «أن خالد بن الوليد لما رمى المرجومة بحجر، فنضح الدم على وجهه فسبها، فسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - سبه إياها فقال مهلا يا خالد فوالذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له» .
قال في النهاية: اللعن من الله عز وجل الطرد والإبعاد ومن الخلق السب والدعاء انتهى كلامه، فظاهره جواز السب لولا التوبة.
وقد روى البخاري عن أبي هريرة قال: «أتي النبي - صلى الله عليه وسلم - بسكران فأمر بضربه فمنا من يضربه بيده، ومنا من يضربه بثوبه، ومنا من يضربه بنعله، فلما انصرف قال رجل من القوم: ما له أخزاه الله؟ فقال رسول الله: - صلى الله عليه وسلم - لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم» ، وفي لفظ له «قال بعض القوم: أخزاك الله قال: لا تقولوا هكذا، ولا تعينوا عليه الشيطان» ، وفي النهاية قاتل الله اليهود أي: قتلهم، وقيل: لعنهم قيل: عاداهم.
وفي الصحيحين من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - أن عمر بلغه عن سمرة أنه باع خمرا، فقال: قاتله الله. لكن ذكر في النهاية أنه من الدعاء الذي لا يقصد كقوله: تربت يداك.
وفي الصحيحين في قنوته - عليه الصلاة والسلام - للنازلة «اللهم العن لحيان ورعلا وذكوان وعصية» . قال في شرح مسلم فيه جواز لعن الكفار، وطائفة معينة منهم.
وفي فنون ابن عقيل حلف رجل بالطلاق الثلاث أن الحجاج في النار فسأل فقيها فقال الفقيه أمسك زوجتك، فإن الحجاج إن لم يكن مع أفعاله في النار، فلا يضرك الزنا.
ويجوز لعن من ورد النص بلعنه، ولا يأثم عليه في تركه، ويجب إنكار البدع المضلة، وإقامة الحجة على إبطالها سواء قبلها قائلها، أو ردها، ذكره في الرعاية، وقد مر قال ابن عقيل في الفنون لا يصح ابتياع الخمر ليريقها، ويصح ابتياع كتب الزندقة ليحرقها ذكره الشيخ تقي الدين في مسودة شرح المحرر، ولم يزد عليه، ثم وجدته في الفنون قال: لأن في الكتب مالية الورق انتهى كلامه. ويتوجه قول: أنه يجوز لأنه استنقاذ كشراء الأسير.
وكأن ابن عقيل إنما حكى ذلك عن غيره، فإن لفظه قيل لحنبلي: أيجوز شراء الخمر لإراقته قال: لا، قلت: فكتب الزندقة للتمزيق؟ قال: نعم، قيل: فما الفرق؟ قال: في الكتب مالية الورق.
قال حنبلي جيد الفهم: هذا باطل بآلة اللهو، فإن فيها أخشابا ووترا، ولا يصح بيعها بما فيها من التأليف الذي أسقط حكم مالية الآلة حتى لو أحرقت لم يضمن فهلا أسقطت حكم مالية الورق كما أسقطت حكم مالية الخشب؟ وقال في الرعاية: ويصح أن يشتري كتب الزندقة، ونحوها ليتلفها فقط.


«إنما أنا بشر أغضب كما يغضب البشر،


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع