مدونة الأستاذ الدكتور محمد محمود كالو
كيف تبنى الأوطان؟ - تاسعاً: تفقُّد الرَّعيَّة –
الأستاذ الدكتور محمد محمود كالو | Prof. Dr. Mohamed KALOU
22/02/2025 القراءات: 3
كيف تبنى الأوطان؟ - تاسعاً: تفقُّد الرَّعيَّة –
الرعاية هي حفظ الشيء، وتفقد أحواله، وإعطاؤه ما يصلحه ويحتاج اليه، وصرف عنه ما يؤذيه وما لا فائدة له فيه، ووقايته مما يعدو عليه أو يضره، وكل من جعل الله تعالى تحت يده شيئاً من مخلوقاته؛ فقد استرعاه ذلك الشيء وجعله في رعايته، وطالبه بأن يرعاه، وكلفه بالقيام به وحفظه وصيانته، فصار مسؤولاً عنه أمام الله عز وجل.
ربما يتبادر إلى ذهن كثيرين منا حينما يتحدث متحدث عن الراعي والرعية؛ أن الراعي هو الحاكم والرعية هم الشعب، ولكن لفظ الراعي أعم وأشمل من الحاكم، إذ أن الحاكم يدخل تحت مفهوم الراعي، ويدخل الوالد، والمدير، وعميد الكلية، ورئيس البلاد، والموظف المسئول، وكل من تولى مهمة معينة، أو تولى رعاية أمر معين فهو راعي، وعلى هذا فإن كل واحد منا لا بد أن يكون راعياً على شيء، وما منا أحد إلا وله مسئولية هو مسئول عنها، أو رعاية يرعاها، ولو لم يكن لأحدنا إلا نفسه يرعاها؛ فإن هذه الرعاية هي أعظم الرعاية وأكبر المسئولية.
قال عليه الصلاة والسلام: (لُّكُمْ رَاعٍ ومَسْؤُولٌ عن رَعِيَّتِهِ؛ فَالإِمَامُ رَاعٍ وهو مَسْؤُولٌ عن رَعِيَّتِهِ، والرَّجُلُ في أهْلِهِ رَاعٍ وهو مَسْؤُولٌ عن رَعِيَّتِهِ، والمَرْأَةُ في بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ وهي مَسْؤُولَةٌ عن رَعِيَّتِهَا، والخَادِمُ في مَالِ سَيِّدِهِ رَاعٍ وهو مَسْؤُولٌ عن رَعِيَّتِهِ) [رواه البخاري]
لنلقِ نظرة على نبي الله سليمان بن داود عليهما السلام وهو يتفقد راعياً من الرعاة الذين أوكل بهم وتولى مسئوليتهم، لم يكن رجلاً ولا بشراً، وإنما كان طيراً من الطيور غاب عن مملكته وفارق قومه، فقام سليمان عليه السلام بالسؤال والبحث عنه في إطار زيارته عليه السلام لعالم الطير في مملكته، يقول الله سبحانه وتعالى عنه: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} [النمل: 20].
فإذا كان هذا اهتمامه بالطيور، فلك أن تتخيل كيف كان تفقده للبشر الذين تولَّى مسئوليتهم ورعايتهم في مملكته؟
هذا هو التفقد المطلوب لأحوال الرعية، التفقد الذي لا يغفل شيئاً، ولا يهمل أحداً، ولو كان تافهاً أو صغيراً، كالهدهد على صغره وصغر مكانته، فهو طير ضعيف وليس هو من الطيور الضخمة أو المميزة، يعيش في مملكة متسعة تحت إمرة سيدنا سليمان عليه السلام، ومع ذلك فإن نبي الله سليمان عليه السلام لم يغفل عن تفقده.
كما كان حال النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء من بعده، يقول زَيْد بْن أَبِي أَوْفَى رضي الله عنه: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَسْجِدَهُ فَقَالَ: «أَيْنَ فُلَانٌ؟ أَيْنَ فُلَانٌ؟ فَجَعَلَ يَنْظُرُ فِي وُجُوهِ أَصْحَابِهِ، وَيَتَفَقَّدَهُمْ وَيَبْعَثُ إِلَيْهِمْ، حَتَّى تَوَافَوْا عِنْدَهُ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، فَآخَى بَيْنَهُمْ..» [رواه أحمد].
وروى مسلم عَنْ أَبِي بَرْزَةَ رضي الله عنه «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، كَانَ فِي مَغْزًى لَهُ، فَأَفَاءَ اللهُ عَلَيْهِ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: هَلْ تَفْقِدُونَ مِنْ أَحَدٍ؟ قَالُوا: نَعَمْ، فُلَانًا، وَفُلَانًا، وَفُلَانًا، ثُمَّ قَالَ: هَلْ تَفْقِدُونَ مِنْ أَحَدٍ؟ قَالُوا: نَعَمْ، فُلَانًا، وَفُلَانًا، وَفُلَانًا، ثُمَّ قَالَ: هَلْ تَفْقِدُونَ مِنْ أَحَدٍ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: لَكِنِّي أَفْقِدُ جُلَيْبِيبًا، فَاطْلُبُوهُ، فَطُلِبَ فِي الْقَتْلَى، فَوَجَدُوهُ إلى جَنْبِ سَبْعَةٍ قَدْ قَتَلَهُمْ، ثُمَّ قَتَلُوهُ، فَأَتَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَوَقَفَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: قَتَلَ سَبْعَةً، ثُمَّ قَتَلُوهُ هَذَا مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ، هَذَا مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ» [رواه مسلم].
وعن مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: "كَانَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا جَلَسَ يَجْلِسُ إِلَيْهِ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَفِيهِمْ رَجُلٌ لَهُ ابْنٌ صَغِيرٌ يَأْتِيهِ مِنْ خَلْفِ ظَهْرِهِ، فَيُقْعِدُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَهَلَكَ -أي مات- فَامْتَنَعَ الرَّجُلُ أَنْ يَحْضُرَ الْحَلْقَةَ لِذِكْرِ ابْنِهِ، فَحَزِنَ عَلَيْهِ، فَفَقَدَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: مَا لِي لَا أَرَى فُلَانًا؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بُنَيُّهُ الَّذِي رَأَيْتَهُ هَلَكَ، فَلَقِيَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَهُ عَنْ بُنَيِّهِ، فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ هَلَكَ، فَعَزَّاهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا فُلَانُ، أَيُّمَا كَانَ أَحَب إِلَيْكَ أَنْ تَمَتَّعَ بِهِ عُمُرَكَ، أَوْ لَا تَأْتِي غَدًا إلى بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ إِلَّا وَجَدْتَهُ قَدْ سَبَقَكَ إِلَيْهِ يَفْتَحُهُ لَكَ، قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، بَلْ يَسْبِقُنِي إلى بَابِ الْجَنَّةِ فَيَفْتَحُها لِي لَهُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ، قَالَ: فَذَاكَ لَكَ»؛ [رواه النسائي].
كما كان يتفقد النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في حالهم مع الأعمال الصالحة فيقول لهم: "مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ صَائِمًا؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَا، قَالَ: فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ جَنَازَةً؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَا، قَالَ: فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مِسْكِينًا؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَا، قَالَ: فَمَنْ عَادَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مَرِيضًا؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ، إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ" [رواه مسلم].
وروى مسلم في صحيحه أن عبد الرحمن بن شماسة قال: أتيت عائشة رضي الله عنها أسألها عن شيء، فقالت ممن أنت؟ فقلت: رجل من أهل مصر، فقالت: كيف كـان صاحبكـم - يعني معاوية بن خديج - لكم في غزاتكم هذه؟ فقال: ما نقمنا منه شيئًا، إن كان ليموت للرجل منا البعير فيعطيه البعير، والعبد فيعطيه العبد، ويحتاج النفقة فيعطيه النفقة.
بناء الأوطان، تفقُّد الرَّعيَّة، مسؤول، الهدهد، ما تفقدون
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع