مدونة سعد رفعت سرحت


(ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم) عن شرطي(الصدق والنية) في البلاغة العربية و النظرية التداولية.

سعد رفعت سرحت | Saad Rafaat sarhat


02/10/2023 القراءات: 655  




من الأشياء غير المريحة في النظرية البلاغية و في النظرية التداولية مبالغةُ البلاغيين و التداوليين في التركيز على مسألة (الصدق والكذب) والاحتكام إلى (نية المتكلم) لمعرفة مدى انطباق أقواله ونيّاته،و انطباق أقواله و وأعماله.


إنّ الإلحاح في تفعيل شرطي الصدق والنية ينبع في كلّ مجتمع من انعدام الثقة بين الناس،فالخطورة في هذه المسألة تكمن في خشيتنا من جعل الناس بعضهم بعضًا في موضع شك دائم،فلا يثق أحد بأخيه،بحيث يظلّ الإنسان موضع شكّ واختبار إلى أنْ يسقط في أحد فخاخ النية،لأنّك لو وضعت نبيًّا من الأنبياء موضع الاختبار والمساءلة لسقط،لا لشيء لأنك_إذ تحاكم نياته_تسقط نياتك أنت على نياته.... فما تحتكم إليه أيها اللئيم هو نيتك أنت لا نيته هو !.


وها نحن اليوم في زمن يودّ فيه الإنسان أن يشقّ عن صدر أخيه ليعرف مدى صدقه و يبحث في نياته. و بكلّ أسف أصبحنا جميعًا ضحايا التخمين والظنّ السيء من إخواننا وأصدقائنا ومحبينا...يعتقد الإنسان في هذا الزمن أنّ أكبر خطيئة يرتكبها في حق نفسه هي ثقته بفلان و بفلان،لأنّ القلوب فقدت سلامة الطبع،فأصبحنا جميعًا موضع قراءة خاطئة من بعضنا،،،،نحن ضحايا نيات الآخرين. نعم ثمة من يرشدك إلى:(صفِّ نيتك _اعمل بأصلك)لكن المتسيد والغالب هو:


_فلان فطير بسرعة يصدك .
_لا تظل غبي،لا ياكلك بالكلام !.
_كلام الليل يمحوه النهارُ !.
_أوّل ما شفته عرفته كذاب
_فلان ما ارتاح له،من شكله مبين كذا.




إنّ قضية الصدق والكذب قضية شائكة تسلّلتْ من حقلي الفلسفة و علم الكلام إلى حقول اللغة،،فقد كان التعاون بين هذه التخصصات مفتوحًا،لا سيّما مع علم الكلام،فقلّما نجد مبحثًا لغويا لم يتأثر بإشعاعات المتكلمين وإسقاطاتهم،إنّ المشتغل في علم الكلام المتكلّم هو بالضرورة متديّن متحيّز متموضع في دائرة أحد المذاهب، شكّاك بالضرورة،كلّ الناس عنده موضع شكّ و اختبار،حتى أقرب الناس إليه.وكان نتاج ذلك أنّهم تركوا سننًا سيئة في نفوس الناس تجاه بعضهم البعض...وفي رأيي أنّ الناس ما أنْ فقدوا ثقتهم بالتديّن حتى فقدوا الثقة فيما بينهم،بل قد يفقدون الثقة بالدين بتمامه،والأمثلة على ذلك كثيرة.



أخذت مسألة (الصدق والكذب)تعظم نظرًا لحاجة اجتماعية لا تخرج عن مطالب الدين و الأخلاق من جهة،و المنافع والغايات من جهة أخرى، فالحديث عن الصدق لا يعدو أنْ يراد به أحد الشيئين:إمّا(التقويم الخلقي)حسب وجهة نظر مذهب من المذاهب. أو(المنفعة بمعناها البراغماتي)على غرار ما يثار في الفكر الغربي المعاصر بصورة ملحّة عند الوضعيين المناطقة وعند التداوليين ،فعند هؤلاء أنّ من مهام البحث اللغوي تحليل العبارات لاستظهار ما فيها من إمكانات التحقيق أو المطابقة مع الواقع، فقد جعلالوضعيون(المحتوى الواقعي وإمكان التحقيق)معيارًا لمعاني العبارات،ذلك أنّ معاني العبارات مرتهنة بمدى تعبيرها عن وقائق متحققة أو وقائع معقولة،وهنا يظهر الصدق من منظور الذرائعية (راجع:معجم أوكسفورد للتداولية:٥١٧)


إنّ ما يتناوله الغربيون في هذا الشأن يكاد لا يختلف كثيرًا عمّا أثاره أسلافنا،لولا أنّ الغربيين غلّبوا الغاية العملية على الغاية الدينية،أمّا أسلافنا فإنهم كانوا يسوّغون نظرتهم بالدين، وإلّا فقد صدرت قضية (الصدق والكذب) التراث العربيّ عن حاجة اجتماعية فرضتها الخلافات العقدية بين الفرق الإسلامية،وقد ارتبط أول الأمر باختبارات الخوارج ومن بعدهم بالمعتزلة. كان الخوارج يحاكمون الناس على النية،و كانوا أول من نادى بالشعار البراغماتي(تصديق القول بالمعتقد و بالعمل)ومن هنا امتحنوا الناس ولم يأخذوا بظاهر أقوالهم،حتى أجمعوا على كفر من لا يعتقد بمعتقدهم.ومنهم سارت فتنة الاحتكام للنيات إلى الفرق الإسلامية،لاسيّما الفرق الكلامية،ففي مرحلة ما استعان المعتزلة بأساليب الكشف عن المعتقدات والنيات، ولعلّ النظ؟ام والجاحظ_رحمهما الله_ كانا يصدران عن هذا الموقف حين أضافا (الاعتقاد)إلى معيار المطابقة في مبحث الخبر.


للشاعر العراقي الدكتور حمد محمود الدوخي بيت شهير يقول فيه:

كذبوا عليك وأنت تدري أنهم
كذبوا عليك وما تزال تصدِّقُ



هذا البيت يمكن أنْ يحلّ لنا شيئًا ممّا نحن بصدد الحديث عنه ،فالمخاطَب في البيت طيّب يصدّق المخاطِب في الوقت الذي هو فيه يعرف أنّ مخاطِبه يكذب،فهل يعاب الإنسان على تصديقه؟.أ يعدّ التصديق نقيصة في البشر؟.أ يُعدُّ عدم الاحتكام إلى نيات الآخرين سبّة في الإنسان؟.



يعلّمنا الرسول _صلى الله عليه وآله وسلم_ أنّ المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين،فلْيُصَدِّقْ مرة،والله تعالى كفيل بحرسه وصونه،أمّا أنْ تصدّق في كلّ مرة وأنت تدري أنّ مقابلك كذاب،فالأولى أنْ نفسك،بل تراجع إيمانك،نعم راجع إيمانك،لأنك لو كنت مؤمنًا حقًّا لَما لُدِغتَ من جحرٍ واحد مرتين.


أنّ الطباع السوية مجبولة على التّصديق،أمّا الشكّ والتكذيب و قراءة طالع النوايا فمواقف متأخرة و ليست أصلًا في الطبع البشري السويّ السليم،لأنّ من شأن اختبار النيّات الاحتكام إلى التخمين وسوء الظنّ ،ومن ثمّ انعدام الثقة والأمن بين الناس.


كان رسول الله يُصدّق المنافقين والكفرة يثق بالعهود،يسمع فيأخذ الكلام على ظاهره بعفو الخاطر،حتى أخذ المنافقون يؤذونه(=يعيبونه)على ذلك ويعدّونه فيه نقيصة:من أنه ( أُذُنٌ )فقالوا:مَن قال له شيئًا صدَّقه فينا، ومَن حدَّثه صدَّقه، فإذا جئناه وحلفنا له صدَّقنا.فأنزل الله تعالى:(ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم).ذلك أنّ تصديق البشر من شروط الإيمان بالله ،لذا يقول تعالى:(يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين)أي: يصدّق المؤمنين(راجع تفسير الطبري).


إنّ مما يؤسف عليه أنّ هذه الآية المباركة غابت عن بال البلاغيين قديمًا وهم يؤسسون لشروط الخبر،فما كان أجدرهم بأن يعتمدوها،و كذا غابت عن بال البلاغيين والتداوليين العرب اليوم،وهم أجدر باعتمادها بدلًا من الإلحاح على شروط الصدق عند الحديث عن نجاح الفعل اللغوي.


شرط الصدق في الخبر _شروط الصدق فعل الكلام


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع