مدونة عبدالحكيم الأنيس


رؤوس أقلام (منوعات في العلم والأدب) (108)

د. عبدالحكيم الأنيس | Dr. Abdul Hakeem Alanees


24/12/2023 القراءات: 326  


تتمة مهمة في الفتوى والعلم النافع وغيره:
علّق الشيخ علي بن عبدالسلام بن علي، أبو الحسن التُّسُولي (ت: ١٢٥٨) في «البهجة في شرح التحفة» (شرح تحفة الحكام) (2/ 701-703) على خبر عامر بن الظرب الجاهلي تعليقًا مفيدًا أحببتُ نشره والإفادة به، قال رحمه الله:
«تتمة: أولُ مَن حكم في الخنثى في الإسلام علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
وأولُ مَن حكم فيه في الجاهلية عامر بن الظرب -بكسر الراء كما في "الصحاح"-.
كانت العرب في الجاهلية لا تقع لهم معضلة إلا اختصموا إليه ورضوا بحكمه فسألوه عن خنثى أتجعله ذكرًا أو أنثى فقال: أمهلوني وبات ليلته ساهرًا، وكانت له جارية اسمها سخيلة ترعى له غنمًا، وكانت تؤخر السراح والرواح حتى تسبق، وكان يعاتبها على ذلك ويقول: أصبحتِ يا سخيلة أمسيتِ يا سخيلة، فلما رأتْ سهره وقلقه قالت له: ما لك في ليلتك هذه ساهرًا؟ قال: ويحك دعي أمرًا ليس من شأنك، ويُقال: إنها قالت له ذلك بعد إقامتهم عنده أربعين يومًا وهو يذبح لهم فقالت له: إن مقام هؤلاء أسرع في غنمك، وسألته عما نزل به فذكره لها بعد أن راجعته مرارًا فقالت: سبحان الله أتبع القضاء للمبال. فقال: فرجتها والله يا سخيلة أمسيتِ بعد هذا أم أصبحتِ، فخرج حين أصبح فقضى بذلك.
قلتُ: ويُستفاد من هذه القضية فوائد:
-منها أن في ذلك ردعًا ومزدجرًا لجهلة القضاة والمفتيين، فإن هذا مشركٌ توقف في حكم حادثة أربعين يومًا، ولم يتجرأ على أن يحكم بغير علم.
وقد كانت الصحابة الذين هم أعلم الأمة يتوقفون ولا يبادرون. قال ابنُ أبي ليلى: أدركتُ في هذا المسجد مئة وعشرين من الصحابة ما سئل أحدهم عن مسألة إلا وودَّ أن صاحبه كفاه، وكان بعضهم يحيل على بعض.
وفي "المواق" أن الإمام النعالي سُئل من "برقة" عمن قال لامرأته: إن فعلت كذا فلست لي بامرأة، فبقي سنةً كاملةً يتأملها، فما خرج الحكم بلزوم الطلاق إلا بعد مضي سنة، وعليه عول (خ) في قوله: أو لست لي بامرأة، إلا أن يعلق في الأخير.
-ومنها: أن الحكمة في العلم قد يخلقها اللهُ تعالى على لسان من لا يظن به معرفتها كهذه الأمة، وإنْ عجز عنها أهل الفطنة والعقول الراسخة، وفي التنزيل: (يؤتي الحكمة من يشاء) (البقرة: 269) الآية.
-ومنها: أنه ينبغي لمن نزل به أمر معضل أن يستعين بغيره كما فعل هذا الجاهلي، ولو كان الغير دونه عقلًا وعلمًا لأنه قد يوجد في النهر ما لا يوجد في البحر.
-ومنها: وجوب الإنصاف إذا ظهر الحق، كما أنصف هذا الجاهلي لهذه الأمة، واعترف لها بالحق والفضل، وما أقبح بالإنسان أن يستفيد ويجحد، ولله در شهاب الدين القرافي وكان يتمثل به كثيرًا حيث قال:
وإذا جلستَ إلى الرجال وأشرقتْ ... في جوّ باطنك العلوم الشردُ
فاحذرْ مناظرة الجهول فربما ... تغتاظُ أنت ويستفيدُ ويجحدُ
-ومنها: أن المذاكرة سبب النفع، كما تذاكر هذا الجاهلي مع هذه الأمة، وقد قيل: فهمُ سطرين خيرٌ مِن حفظ وِقرين، ومذاكرة اثنين خير من هذين.
ولله در القائل:
ولله قوم كلما جئتُ زائرًا ... وجدتُّ قلوبًا كلها ملئتْ حلما
إذا اجتمعوا جاؤوا بكل فضيلةٍ ... ويزداد بعض القوم من بعضهم علما
-ومنها: أن قول الإنسان لا أدري لا ينافي كمال العلم والفهم، كما فعل الجاهلي حيث قال: أمهلوني.
وكان ابن عمر رضي الله عنه يُسأل عن عشر مسائل، ويجيب عن واحدة، ويقول في الباقي: لا أدري.
وسُئل مالك عن ثمان وأربعين مسألة فقال في اثنين وثلاثين منها: لا أدري.
ومن كلامه رحمه الله: إذا سُئلت عن علم وأنت لا تعلمه فقل: لا أدري، فإن الله يعلمك ما لم تكن تعلم.
وفي "الحكم": من رأيته مجيبًا عن كل ما سئل، ومعبرًا لكل ما شهد، وذاكرًا لكل ما علم، فاستدل بذلك على جهله. والواو في كلامه بمعنى (أو)، إذ كل من الثلاثة دليل الجهل، وذلك لأن الجواب عن كل سؤال يتضمن دعوى الإحاطة بالعلم وليستْ إلا لعلام الغيوب.
-ومنها: أن الرياسة لا تحصل إلا بالعلم، إذ النفوس لا تذعن إلا لمن كان أعلم منها، فالعرب إنما اتخذوا ابن الظرب رئيسًا لما اعتقدوا فيه من فهم المشكلات وحل المعضلات، ولم يخلق الله تعالى أشرف من العلم، وبه شرفت الملائكة والأنبياء، ومن أجله سجدت الملائكة لآدم حين علمه ربه الأسماء، ولم يأمر الله سبحانه نبيه بطلب الزيادة من شيء إلا من العلم فقال: يا محمد (وقل رب زدني علمًا)، ولذا حثَّ النبيُّ عليه السلام على طلبه فقال: "اطلبوا العلم ولو بالصين"، وقال: "كل يوم لا أزداد فيه علما يقربني إلى الله فلا بورك لي في طلوع شمس ذلك اليوم":
فقال الفقهاء: العلم الذي يطلب ولو بالصين هو علم الحلال والحرام.
وقال المفسّرون: هو علم كتاب الله العزيز.
وقال المحدّثون: هو علم الحديث.
وقال الصوفية: هو علم النفس.
والصحيح أن الحديث الكريم شامل لذلك كله، إذ علم الحلال والحرام مستنبط من الكتاب والسنة، وعلم النفس راجع إلى ذلك كله. وهذا كله في العلم النافع، إذ ما مِن فضل وردَ فيه إلا وهو خاصٌّ به، فقد قال عليه السلام: "العلم علمان: علم في اللسان فقط وهو حجة الله على عبده، وعلم في القلب وهو العلم النافع".
قال أبو زيد عبدالرحمن السلمي رضي الله عنه، والترمذي وغيرهما: كل علم لا يورث لصاحبه خشية في قلبه، ولا تواضعًا، ولا نصيحة لخلقه، ولا شفقة عليهم، ولا امتثالًا للأوامر ولا اجتنابًا للنواهي، ولا حفظًا للجوارح، فهو العلمُ المحجوج به العبد، المحفوظ في اللسان فقط، إذ الشهوات غالبة عليه، أطفأتْ نوره، وأذهبتْ ثمرته، وهو العلم الغير النافع، وكل علم تمكّن في القلب، وحصل به تعظيمُ الرب، وأورثَ لصاحبه خشية، وتواضعًا، ونصيحة للخلق، وشفقة عليهم، وامتثال الأوامر، واجتناب النواهي فهو العلمُ النافعُ.
وقد استعاذ عليه السلام مِن علم لا ينفع فقال: "أعوذ بالله من علم لا ينفع، وقلب لا يخشع"، وقال: "ما آتى الله عبدًا علمًا فازداد للدنيا حبًّا إلا ازداد من الله غضبًا وبعدًا".
وقال: "أشد الناس عذابًا يوم القيامة عالم لا ينفعه علمه".....
يتبع في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى


منوعات


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع