مدونة الأستاذ الدكتور محمد محمود كالو
لا تحطموا رموزكم، أ. د. محمد محمود كالو
الأستاذ الدكتور محمد محمود كالو | Prof. Dr. Mohamed KALOU
19/09/2023 القراءات: 569
لا تحطموا رموزكم
كان المرسلون الأولون مصابيح تضيء جوانب الليل الذي ألقى بظلاله على أنحاء الدنيا، فلما بزغ فجر الإسلام بدأ ينشق عنه الظلام، وبدأت أشعة الرسالة العامة تتهادى في الأفق، حيث انتقل العالم من عهد إلى عهد جديد..
لا تَذْكُروا الكتبَ السَّوالِفَ عندَهُ
طَلَعَ النَّهارُ فأَطْفِئُوا القِنْدِيلا
إنه قدوم الأنموذج الفريد، والرمز العظيم، والرجل الكريم، والقدوة الحسنة، فيه اجتمعت كمالات من سلف من الأنبياء والمرسلين والصالحين والناجحين، إنه نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ذو الصفات الرفيعة والخلال البديعة، الذي وصفه الباري سبحانه وتعالى فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]
لذلك فإن وجود "الرموز" في الأمم أمرٌ ضروريٌ لرسم الصورة التي يجب على الأمة اقتفاء أثرها، وتلمس خطاها، ولا نكاد نرى أمة من الأمم تعيش بلا رموز مضيئة تنير طريقها.
لكننا اليوم إذا سألنا أي شخص مسلم: ما أسباب تشتتنا؟ سيجيبك فوراً: فرَّقتْنا حب السلطة والمال.
للأسف ركزنا كثيراً على ما يشتتنا، وتجاهلنا ما يجمعنا، وساعد على ذلك غياب موجِّهين لا يخافون في الله لومة لائم من حكام وعلماء ومؤرخين إلا من رحم ربي.
إن أعداء الأمة لا يريدون ولا يتمنون نهوض أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم مرة أخرى، ولا يتخيلون بروز قائد من هذه الأمة يحاول لمَّ شملها وجمع شتاتها.
ونظراً لأثر الرموز والقادة على مجتمعهم ومن حولهم، فقد أكَّد المتخصِّصون في علم النفس على أهمية أثر النموذج والرمز والقدوة على الشباب والشابَّات، والصغار على وجه الخصوص، ويظهر ذلك اليوم جلياً بتقليد بعض المشاهير، كلاماً وسلوكاً ولبساً ومشياً وحركةً وسكوناً.
إن أقصر طريق للتربية هو القدوة والرمز؛ إذ يجذب الآخرين إليه بالمحاكاة والتأسِّي والتقليد، لذلك قال الله تعالى آمراً نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، بعد أن ذكر بعض النماذج الرائعة من إخوانه الأنبياء والمرسلين عليهم السلام: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}، [الأنعام: 90].
لكن أعداء الأمة دائماً بالمرصاد، يحطمون الرموز، أليس أبو جهل هو من كان في مواسم الحج خلف النبي صلى الله عليه وسلم وتارة يسبقه وتارة يلحقه وهو يقول: يا معاشر الحجاج، إن هذا ابننا، ولقد صبأ عن ملَّتنا، وإنه سفيهٌ فينا، ينال من عقله وسيرته، حتى يتشكك الناس في عدالته، فلا يقبلوا منه صرفاً ولا عدلاً.
كما يجيد الأعداء صنع الرمز وتسويقه للناس على هيئة شخصية متميزة يكثر الحديث عنها وعن بطولاتها ومواقفها، وربما يفتعل لها مواقف ليست حقيقة، ويضفي عليها من البهاء الذي تفتقر إليه حتى يقدمها للناس في أبهى صورة، والأمثلة على ذلك كثيرة من واقعنا.
أما نحن معشر المسلمين فحتى الآن لم نستطع أن نستفيد من هذا التراث الضخم من الشخصيات الفذة التي نملكها، علماً لم تملك أمة من الأمم مثل الأمة الإسلامية هذا الكنز الهائل من الشخصيات العظيمة، قديماً وحديثاً، إذ توجد لدينا شخصيات حقيقية تتحلى بالمقاييس التي يقيسون بها الشخصيات العظيمة وتتفوق عليها أيضاً في كافة الميادين والأصعدة، في حين أن معظم الشخصيات التي صنعوا منها رموزاً ليفتنوا بها الناس وليصوروهم على أنهم من خيرة من أنجبت البشرية كانت شخصيات بها من العيوب الكثيرة، فتغاضوا عن عيوبهم وطمسوا ذكرها، ورفعوا ذكر مزاياهم الوهمية ليعيش الناس حولهم وليقتدوا بهم.
على أن مشكلتنا الأخطر هي مشكلة تحطيم الرموز التي يمكن أن تقود الأمة فكرياً وعملياً، وتحطيم الرموز بقصد وسوء نية من أعداء الأمة في الداخل والخارج.
هذا رمز العالم الرباني، وأنموذج الفقيه المقاوم، يدعى العز ابن عبد السلام، سلطان العلماء، عارض إبرام صلح مذل مع الفرنجة، فحبسه الصالح إسماعيل في خيمة، واقتاده معه حيث كان يبرم الصلح في الخيمة المجاورة، وظل الشيخ يتلو القرآن ويصلي وهم يسمعونه، فقال إسماعيل لجلسائه متفاخراً:
" تَسْمَعُونَ هَذَا الشَّيْخ الَّذِي يقْرَأ الْقُرْآن؟ قالوا: نعم، قال: هذا أكبر قسوس المسلمين، وقد حبستُه لإنكاره عليَّ تسليمي لكم حصون المسلمين، وعزلته عن الخطابة بدمشق وعن مناصبه، ثم أخرجتُه، فجاء إلى القدس، وقد جددت حبسه واعتقاله لأجلكم، فقالت له ملوك الفرنج: لو كان هذا قسيسنا لغسلنا رجليه وشربنا مرقتها". [انظر: طبقات الشافعية الكبرى لتاج الدين السبكي: 8/244].
وهكذا فعل نخبة العار في زماننا ممن يمقتون الشريعة ورجالها في تحطيم كل رمز إسلامي بالتلفيق والكذب والزور والبهتان، حتى وصلنا اليوم لكارهي الشريعة الذين لا يتركون رمزاً إسلامياً إلا وطعنوا فيه حياً، أو طعنوا في سيرته بعد وفاته، بالتأكيد على نشر عيوبه واختلاق القصص الوهمية الباطلة لمحو وجود رمز إسلامي يمكن أن ينهض بالمسلمين نحو السؤدد.
إن أمة الإسلام أمة ولود، لا ينتهي خيرها ولا ينقطع مددها، ولا يمكن قيام نهضة لأمتنا إلا بدعم رموزها في كافة الميادين؛ ليشكلوا وجداناً حياً للشعوب ليسير الناس على خطاهم، فبكلمة واحدة أو بموقف واحد من رمز صالح؛ ربما يشكل علامة فارقة، ويمكنه بإذن الله تعالى تغيير شعوب بأكملها.
فمتى تدرك هذه الأمة خطورة مساعدتها اللاواعية لأعدائها في مشروعهم الحقود الرامي إلى تفريغ الأمة من رموز الهمّة، لا تقتلوا أسود بلادكم فتأكلكم كلاب أعدائكم، ولا تشوهوا سمعة رموزكم، ولا تحطموا قاداتكم، واعلموا بأن الكمال الإنساني شيء يستحيل وجوده بعد الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام.
الموز، القائد، القدوة، الأسوة، الأنموذج،
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع