مدونة الباحث/محمد محمد محمود إبراهيم


{وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا}

باحث /محمد محمد محمود إبراهيم | MOHAMED MOHAMED MAHMOUD IBRAHIM


06/01/2023 القراءات: 383  


{وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا}
قال تعالى:
{وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.
ما أكثرَ ما يساءُ فهم هذه الآية في هذا الزمان، وما أكثر ما يساء الاستشهاد بها، وما أكثر ما يحرَّف معناها.
إننا نرى ونسمع كثيرين -ممن ركنوا إلى الظالمين وباعوا أنفسهم لهم- يريدون أن يبرروا لأسيادهم أعمالهم ومواقفهم، فيتوجهون إلى الآية، ويوظفونها لهذه الغاية.
يريد حاكمون أن يهادنوا أعداءهم من اليهود، ويختارون أن يفاوضوهم ويسالموهم ويصالحوهم، ويرفضون قتالهم وجهادهم، ويلغون الحل الجهادي والخيار العسكري القتالي، ويفتحون أبواب الحل السلمي والمفاوضات والمهادنة، ويرغبون في الصلح مع الأعداء، والتنازل لهم عن جزء من الأراضي المحتلة. ويَظْهرون على شعوبهم بهذا الاختيار، ويدعونهم كي يكونوا معهم فيه.
ويلجأ أناس ممن ركنوا إلى هؤلاء الحكام، وارتبطوا بهم، وباعوا أنفسهم ودينهم لهم -من حملة الشهادات الشرعية وأصحاب الوظائف الإسلامية الرسمية- إلى القرآن الكريم، يبحثون فيه، ويقلِّبون في سوره وآياته، لعلهم يجدون آيةً يحرِّفون معناها لخدمة أسيادهم، ويوظفونها شاهدةً على صواب أعمالهم.
وفي موضوع المصالحة للأعداء ومفاوضتهم ومهادنتهم يقولون: لقد وجدناها:
إن هذه الآية -كما يزعمون- تدل على جواز الحل السلمي، وإلغاء الحل العسكري الجهادي، وتُبارك مفاوضة الأعداء اليهود، ومهادنتهم، والتنازل لهم عن بعض الأراضي.
وهذا تحريفٌ لمعنى الآية، وتأويلٌ مرفوضٌ لمفاهيمها، وتفسيرٌ باطلٌ لها.
ننظر أولاً في السياق الذي وردت فيه الآية.
قال تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (59) وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (60) وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ}.
لا يجوز فصلُْ الآية عن سياقها، حتى لا نخطئ في فهمها وتفسيرها، لأن النظر في السياق شرطٌ لصحة تفسيرها، وواجبٌ على من أراد حسن فهمها.
إنها آيةٌ ضمن مجموعةٍ من الآيات عن موضوع الحرب والجهاد، والعلاقات بين المسلمين والكفار:
الكفار دواب. والكفار ينقضون عهودهم مع المسلمين في كل مرة، ولهذا يجب على المسلمين أن يقاتلوهم بقوةٍ وغلْظة وشجاعة، بحيث يوقِعون الرعب في قلوب الآخرين، ويشردونهم فلا يفكرون في قتال المسلمين. وإذا ما حاول الكفار نقض العهد مع المسلمين، فعلى المسملمين أن يُعلِموهم بإلغاء العهد معهم، وإعلان الحرب عليهم. وإن الكافرين لا يعجزون المسلمين ولا يغلبونهم.
وتطالب الآيات المسلمين بإعداد كل ما يقدرون عليه من ألوان القوة، وأساليب الجهاد، وأسلحة القتال، لمواجهة الأعداء، وبث الرعب في نفوسهم.
وهذا الإِعداد والاستعداد، وهذا القتال والجهاد، كفيلٌ بأن يجعل الكفار يائسين من الحرب، راغبين في المسالمة والمهادنة، طالبين للحل السلمي مع المسلمين، مظهِرين رغبتهم في مفاوضة المسلمين على إلقاء السلاح وترك القتال، والخضوع للمسلمين في ما يطلبون.
إنَّ الكفار لن يصلوا إلى هذا الأمر، إلا إذا قاتلهم المسلمون بغلظة وشجاعة، وحشدوا لهم كلَّ القدرات والطاقات، وأعَدوا لحربهم كل أساليب القوة.
فإذا أوصل المسلمون الكافرين إلى هذه النتيجة، ومال هؤلاء الكافرون للصلح، وجنحوا للسّلم، وتركوا القتال. فعلى المسلمين أن يجنحوا للسّلم، وأن يقبلوا الصلح.
لا تجيز الآية للمسلمين أن يبدأوا هم بالجنوح إلى السلم، وطلب الصلح، وإنما تُجيز لهم أن يَقبلوا جنوحَ الكافرين للسلم وطلبهم للصلح.
على الكافرين أن يبدأوا بالجنوح ويخطوا الخطوة الأولى، وعلى المسلمين أن يقبلوا ذلك ويخطوا الخطوة الثانية.
وهذا ما نأخذه من صياغة الآية: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها}، حيث جاءت جملةً شرطية، وجواب الشرط دائماً مترتبٌ على فعل الشرط.
{جنحوا للسلم} فعل الشرط، والذين يقومون بالفعل هم الكفار.
{فاجنح لها} جواب الشرط، والذين يقدِّمون الجواب هم المسلمون.


{وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا}


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع