مدونة عبدالحكيم الأنيس


رؤوس أقلام (منوعات في العلم والأدب) (85)

د. عبدالحكيم الأنيس | Dr. Abdul Hakeem Alanees


10/11/2023 القراءات: 599  


ترجمة عالم فقيه صالح:
هذه سطور مشرقة كتبها الحافظ ابن حجر في التعريف بالفقيه الأذرعي الحلبي، أحببتُ أن أسوقها بتمامه، أذكر بها نفسي وإخواني القراء، وفي كل جملة فائدة وأدب درس وأدب نفس، وقد زرت قبر هذا الشيخ الصالح في حلب.
قال ابنُ حجر في «الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة» (1/ 145-147):
«أحمد بن حمدان بن أحمد بن عبدالواحد بن عبدالغني بن محمد بن أحمد بن سالم بن داود بن يوسف بن خالد.
الشيخ شهاب الدين الأذرعي، أبو العباس.
ولد بأذرعات الشام في وسط سنة ثمان وسبع مئة.
وسمع من الحجّار، والمزِّي، وحضر عند الذهبي، وتفقَّه على ابن النقيب، وابن جملة.
ودخل القاهرة فحضر درس الشيخ مجد الدين الزنكلوني، ولازم الفخر المصري، وهو الذي أذن له، وشهد له عند السبكي بالأهلية.
ثم أُلزم بالتوجّه إلى حلب، وناب عن قاضيها نجم الدين ابن الصائغ، فلما ماتَ ترك ذلك وأقبل على الإشغال والاشتغال.
وراسلَ السبكي بـ "المسائل الحلبيات"، وهي في مجلد مشهور.
واشتهرتْ فتاويه في البلاد الحلبية.
وكان سريع الكتابة، منطرح النفس، كثير الجود، صادق اللهجة، شديدَ الخوف من الله.
جمع: "التوسط والفتح بين الروضة والشرح" في عشرين مجلدًا كثير الفوائد.
وشرح "المنهاج" في "غنية المحتاج"، وفي "قوت المحتاج"، وحجمُهما متقاربٌ، وفي كلٍّ منهما ما ليس في الآخر، إلا أنه كان في الأصل وضع أحدَهما لحل ألفاظ الكتاب فقط فما انضبط له ذلك بل انتشر جدًّا.
وقدم القاهرةَ بعد موت الشيخ جمال الدين الأسنوي، وذلك في جمادى الأولى سنة 762، وأخذ عنه بعضُ أهلها، ثم رجع.
ورحل إليه مِن فضلاء المصريين الشيخُ بدر الدين الزركشي، فقرأتُ بخطه: "رحلتُ إليه سنة 763 فأنزلني داره، وأكرمني، وحباني، وأنساني الأهل والأوطان".
والشيخ برهان الدين البيجوري، وكتب عنه "شرح المنهاج" بخطه، فلما قدم دمشق أخذ عنه بعضُ الرؤساء.
وذكر لي أنه كان يكتبُ في الليل على شمعتين موكبيتين أو أكثر.
وذَكر لي بعضُ مشايخنا أنه كان يكتبُ في اليل كراسًا تصنيفًا، وفي النهار كراسًا تصنيفًا، لا يقطع ذلك، ولكن لو كان ذلك مع المواظبة لكانت تصانيفُه كثيرة جدًّا، لكن لعله تركَ ذلك مسوداتٍ فضاعتْ مِن بعده.
ومِن نظمه:
يا مُوجدي من العدَمْ … أقلْ فقد زلَّ القدَمْ
واغفر ذنوبًا قد مضى … وقوعُها من القدَمْ
لا عذرَ في اكتسابها … إلا الخضوع والندَمْ
إنَّ الجواد شأنه … غفرانُ زلات الخدَمْ
وكان فقيه النفس، لطيف الذوق، كثير الإنشاد للشعر، وله نظم قليل.
وكان يقولُ الحق، وينكرُ المنكر، ويخاطبُ نواب حلب بالغلظة.
وكان محبًّا للغرباء محسنًا إليهم، معتقدًا لأهل الخير، كثير الملازمة لبيته لا يخرج إلا في الضرورة.
وكان كثير التحرِّي في أموره.
وكان لا يأذن لأحد في الإفتاء إلا نادرًا.
وكان الباريني -مع جلالة قدره- إذا اجتمعتْ عنده الفتاوي التي يستشكلها يحضرُه ويجتمع به ويسأله عنها، فيجيبه فيعتمد على جوابه.
وقد ذُكرتْ عنه كرامات ومكاشفات.
وبالغ ابنُ حبيب في الثناء عليه في "ذيله" على تاريخ والده.
وقرأتُ بخط الشيخ برهان الدين المحدِّث بحلب -وأجازنيه-: أنشدنا الإمامُ شيخُ الشافعية شهاب الدين الأذرعي لنفسه:
كم ذا برأيك تستبدُّ … ما هكذا الرأي الأسدُّ
أأمنتَ جبارَ السما … ء ومَن له البطش الأشدُّ
فاعلمْ يقينًا أنه … ما مِن مقام العَرْض بدُّ
عَرْض به يقوى الضعيفُ … ويضعفُ الخصمُ الألدُّ
ولذلك العَرْضِ اتقى … أهلُ التقى وله استعدوا
وهي طويلة.
مات في خامس عشر جُمادى الآخرة سنة 783».
ونقل الشيخ محمد راغب الطباخ هذه الترجمة في كتابه "إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء" (5: 87-89)، وتحرف عنده "ابن جملة إلى "ابن حجلة".
وأضاف على الترجمة من "المنهل الصافي"، وجاء في نقله من "المنهل الصافي": "وكان فقير النفس". وهذا تحريف، والصواب: فقيه النفس. وما أبعد ما بينهما!
ثم قال الطباخ: "إن قبره على قارعة الطريق في محلة المقامات بظاهر باب المقام"، وقد زرتُه كما قدمتُ.
رحمه الله تعالى.
***
التحرّي والتبرّي وقول لا أدري:
جرت عادة العلماء بتطعيم الإجازة العلمية بالوصايا النافعة، ومن جميل تلك الوصايا ما جاء في إجازة الشيخ علي السباعي (ت: 1419) لأحمد النور: "قد أجزتُ هذا الأخ ... بالشرط الذي عليه الاتفاق، وحصل عليه الإطباق، وهو التحرّي والتبرّي، وأن يقول فيما لا يدريه: لا أدري". مِن بحث الأستاذ أحمد متفكر في كتاب "الجامعة اليوسفية" (2: 307).
***
القهوة أيضًا:
أرسل إلي الأخ الكريم الشاعر الأديب النابه أمين السعدي هذا التعليق على فقرة القهوة السابقة:
"جاء في ديوان الشيخ محمد العيد آل خليفة الجزائري ( توفي في ٧ من رمضان سنة ١٣٩٩) (ص: ٥١١):
اﻟﺠﺎﺭﻳﺔ اﻟﺴﻮﺩاء
ﻧﻈﻢ اﻟﺸﺎﻋﺮ اﻟﺒﻴﺘﻴﻦ اﻷﻭﻟﻴﻦ ﻓﻲ ﺑﺪاﻳﺔ اﻟﺤﺮﺏ اﻟﻌﺎﻟﻤﻴﺔ الثانية ﺣﻴﺚ ﻓـﻘﺪﺕ "اﻟﻘﻬﻮﺓ" ﻭﻫﻲ "اﻟﺠﺎﺭﻳﺔ اﻟﺴﻮﺩاء". ﻭﻧﻈﻢ اﻟﺒﻴﺘﻴﻦ اﻷﺧﻴﺮﻳﻦ ﺑﻌﺪ اﻟﺤﺮﺏ ﻭﺁﻻﻣﻬﺎ.
ﻭﺟﺎﺭية ﺳﻮﺩاء ﻋﺰَّ ﻣﻨﺎﻟﻬﺎ … ﻋﻠﻰ اﻟﺒﻴﺾ ﻭاﺳﺘﻌﺼﻰ ﻋﻠﻴﻬﻢ ﻭﺻﺎﻟُﻬﺎ
ﺗﻮﻟﺖْ ﻭﺻﺪﺕْ ﻋﻨﻬﻢ ﻓﺘﻌﻮﺿﻮا … ﺟﻮاﺭﻱ ﺃﺧﺮﻯ ﻻ ﻳﻄﺎﻕ اﺣﺘﻤﺎﻟُﻬﺎ
...
ﻭﻫﺎ ﻫﻲَ ﻗﺪ ﻋﺎﺩﺕْ ﻭﺟﺎﺩﺕْ ﺑﻮﺻﻠﻬﺎ … ﻟﻨﺎ ﺑﻌﺪﻣﺎ ﻏﺎﺑﺖْ ﻭﻃﺎﻝ اﺭﺗﺤﺎﻟُﻬﺎ
إذا ﺣﻀﺮﺕْ ﻓﻲ ﻣﺠﻠﺲٍ ﻃﺎﺏ ﺃﻧﺴُﻪ … ﻭﺃﻏﻨﺎﻩ ﻋﻦ ﺷﺮﺏ اﻟﺤﺮاﻡ ﺣﻼﻟُﻬﺎ...
وقلت مجيبًا عنه:
هي البُنُّ عند الخلف سمّوه قهوة...وعند الألى خمرٌ حرام نوالُها
وصاروا كعشاق هيامى بحبها...إذا غاب منها الطعم حل خيالُها
...
ومحمد العيد نعته الشيخُ محمد البشير الإبراهيمي رحمه الله بشاعر الشباب، وشاعر الجزائر الفتاة، بل شاعر الشمال الإفريقي بلا منازع.
وقال عنه الأميرُ شكيب أرسلان: "كلما قرأت شعرًا لمحمد العيد الجزائري تأخذني هزةُ طرب تملك علي جميع مشاعري".
وقال فيه:
ارق بالشعر لا عدمتَ رقيا ... قد عرفناك نابغًا عبقريا
قد عرفناك نابغَ الفكر حرًّا ... نابه الذكر مخلصًا وطنيا
قد عرفناك بالجزائر برًّا ... يوم أحييتَ ذكرَها الأدبيا".
***


منوعات


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع