مدونة الأستاذ الدكتور محمد محمود كالو
كيف تبنى الأوطان؟ - ثالثاً: الأمن -
الأستاذ الدكتور محمد محمود كالو | Prof. Dr. Mohamed KALOU
14/02/2025 القراءات: 4
كيف تبنى الأوطان؟ - ثالثاً: الأمن -
تبنى الأوطان وتزدهر بحب أبنائها واخلاص قاداتها، والعدل بين جميع أفراد شعبها، ولا تبنى الأوطان إلا بسواعد أبنائها، والأمم لا تنهض إلا على أكتاف شبابها، ومن أسس بناء الأوطان الرئيسة التي ذكرناها: العلم والعدل، وقد تحدثنا عنهما، واليوم نتحدث عن الأساس الثالث ألا وهو الأمن.
إنَّ الإسلام هو دين الأمن، ولا يمكن أن يتحقق الأمن للناس إلا إذا دانوا بهذا الدين العظيم، والأمن مسؤولية الجميع، والأمن نعمة من أجل وأخطر وأعظم النعم، وعند أهل العلم وذوي العقول أنه ليس بعد الإيمان نعمة أعظم من نعمة الأمن يمن بها الله على الأوطان والبلدان والإنسان، فلم يكن غريبا أن يكون الأمن مطلباً يطلبه المخلصون لبلدانهم وأهليهم؛ كما قال إبراهيم عليه السلام: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ} [البقرة:126]، فبدأ بالأمن قبل الرزق لسببين:
الأول: لأن استتباب الأمن سبب للرزق، فإذا شاع الأمن واستتبَّ ضرب الناس في الأرض، وهذا مما يدر عليهم رزق ربهم ويفتح أبوابه، ولا يكون ذلك إذا فُقد الأمن.
الثاني: ولأنه لا يطيب الطعام ولا يُنتفع بنعمة الرزق إذا فقد الأمن.
ولربما يسأل أحدهم فيقول: لماذا قدم الرزق على الأمن في سورة قريش؟ قال الله تعالى: {فليعبدوا رب هذا البيت. الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف} [قريش:3، 4]،
نقول: بأن هذه السورة خطاب للمشركين، وعند مخاطبة هؤلاء يحسن البدء بالقليل قبل الكثير، وباليسير قبل العظيم.
وامتن الله تعالى في القرآن على عباده بهذه النعمة: فقال تعالى: {أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} [القصص: 57]. وقال سبحانه: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} [العنكبوت: 67]. وقال أيضاً: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً} [البقرة: 125].
وهكذا نجد أن انتشار الأمن مطلب من أهم مطالب الحياة، وضرورة من أهم ضروريات البشر، لا تتحقق مصالح العباد والبلاد إلا بوجوده، ولا تتحقق أهداف المجتمعات وتطلعاتها إلا بانتشاره، ولا تسعد نفوس الناس ولا يهنأ عيشهم إلا بازدهاره، فإذا ما رفع رفعت معه سعادة العباد، ورخاء ونماء البلاد، وحل مكانه الخوف والجوع، وفشا الخراب والدمار.
ولذلك كان الأمنُ مطلبُ كل مخلصِ لبلده محبٍ لوطنه؛ بل مطلب الناس جميعاً، فإبراهيم عليه السلام يدعو الله تعالى أن يجعل بلده آمناً {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35].
ويوسف عليه السلام يطلب من والديه دخول مصر مخبراً باستتباب الأمن بها {فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللّهُ آمِنِينَ} [يوسف: 99].
ولمَّا خاف نبي الله موسى عليه السلام أعلمه ربه أنه من الآمنين ليهدأ رَوْعه، وتسكن نفسه {وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ} [القصص: 31].
ولما رحم النبي صلى الله عليه وسلم أهل مكة يوم فتحها ذكرهم بما ينالون به الأمن؛ مما يدل على أهميته لدى المؤمنين والكافرين، فقال: «من دخَل دارَ أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقَى السّلاحَ فهو آمن، ومن دخل المسجدَ فهو آمن» [رواه مسلم]، فالأمن نعيم من نعيم الدنيا.
ونعمة الأمن أعظم من نعمة الصحة، قال الفخر الرازي رحمه الله تعالى: "سئل بعض العلماء: الأمن أفضل أم الصحة؟ فقال: الأمن أفضل، والدليل عليه أن شاة لو انكسرت رجلها فإنها تصح بعد زمان، ثم إنها تقبل على الرعي والأكل. ولو أنها ربطت في موضع وربط بالقرب منها ذئب فإنها تمسك عن العلف ولا تتناوله إلى أن تموت، وذلك يدل على أن الضرر الحاصل من الخوف أشد من الضرر الحاصل من ألم الجَسَد".
وإذا عَمَّ الأمنُ البلادَ وألقى بظلّه على الناس، أَمِنَ الناسُ على دينهم، وعلى أنفسِهم وعقولهم وأمِنُوا على أموالهِم وأعراضِهم ومحارمهِم، ولو كتبَ اللهُ تعالى الأمنَ على أهل بلدٍ من البلادِ سارَ الناسُ ليلاً ونهارًا لا يخشون إلا الله تعالى.
ولأهمية الأمن أكرم الله تعالى به أولياءه في دار كرامته؛ لأنه لو فُقد فُقد النعيم، قال رب العالمين: {ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ آمِنِينَ} [الحجر: 46]، وقال سبحانه: {يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ} [الدخان: 55].
ومن هنا جاءت هذه الشريعة الغراء ومن أهم قواعدها ومقاصدها العامة حفظ الأمن العام بحفظ الضروريات الخمس التي لا تنعقد معيشة الناس إلا بحفظها ألا وهي: حفظ الدين، وحفظ العقل، وحفظ النفس، وحفظ العرض، وحفظ المال.
وكذلك العكسُ فإذا سُلبَ الأمنُ من بلدٍ ما، وتصوّر كيف يكونُ حالُ أهلنا في سوريةِ قبل انتصار الثورة؟! بدون أمن ولا أمان، حيث كانت الطائرات والقذائف الصاروخية والبراميل الغبية تنزل على رؤوسهم ليل نهار، وكم من البلاد إلى الآنَ يعيشُ أهلُها في خوفٍ وذُعرٍ، في قلقٍ واضطرابٍ، لا يهنئون بطعامٍ، ولا يرتاحونَ بمنامٍ، كلٌّ ينتظرُ حَتْفه بينَ لحظةٍ وأخرى.
ومن أهم وسائل حفظ الأمن: شكر الله تعالى عليها وإدامة ذلك، فالنعم تثبت بالشكر وتذهب بالجحود، قال الله تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7]
وكذلك بتحقيق الإخلاص في الإيمان، فقد قال الله تعالى: {الذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} [الأنعام: 82]، أي: مهتدون في الدنيا، وآمنون في الآخرة.
ومن وسائل حفظ الأمن الدعاء والتضرع بين يدي الباري سبحانه وتعالى،
بناء الأوطان، الأمن، أطعمهم، آمنهم، جوع، خوف
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع