مدوّنة الأستاذ المشارك الدّكتور منير علي عبد الرّب القباطي


الانحراف في باب البدعة والتّبديع في مسائل الخلاف الفقهيّ المعتبر (5)

الأستاذ المشارك الدّكتور منير علي عبد الرّب | Associate Professor Dr. Muneer Ali Abdul Rab


29/04/2023 القراءات: 1033  


نماذج من مسائل الخلاف الفقهيّ السّائغ ومناقشة حجج من يرمي قول المخالف بالبدعة
ﻣﺴﺎﺋﻞ اﳋﻼف السّائغ أو ﻣﺴﺎﺋﻞ اﻻﺟﺘﻬﺎد الّتي اختلف فيها أهل العلم الرّاسخون كثيرة، وسوف نذكر في هذا المبحث منها غيضًا من فيض، وسيتحرّى الباحث أن يقتصر على المسائل الّتي وقع فيها التّبديع، مع مراعاة الإيجاز في المناقشة، ومن هذه المسائل ما يلي:

‌وضع ‌اليدين ‌على ‌الصّدر ‌بعد ‌الرّكوع
قال الشّيخ الألبانيّ -رحمه الله-: ولست أشكّ في أنّ ‌وضع ‌اليدين على الصّدر في هذا القيام ‌بدعة ‌ضلالة؛ لأنّه لم يرد مطلقًا في شيء من أحاديث الصّلاة -وما أكثرها!-، ولو كان له أصل؛ لنقل إلينا ولو عن طريق واحد، ويؤيّده أنّ أحدًا من السّلف لم يفعله، ولا ذكره أحد من أئمّة الحديث فيما أعلم (al-Albani,2006).
فلا ينبغي أن يفضي الخلاف في هذه المسألة إلى الاختلاف المذموم شرعًا، أو الحكم بالبدعة لمن فعل ذلك؛ لأنّ النّصوص الواردة في ذلك غير صريحة، وعامّة، كحديث ‌سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: «‌كَانَ ‌النَّاسُ ‌يُؤْمَرُونَ ‌أَنْ ‌يَضَعَ ‌الرَّجُلُ ‌الْيَدَ ‌الْيُمْنَى عَلَى ذِرَاعِهِ الْيُسْرَى فِي الصَّلَاةِ» (al-Bukhari,1993,n740). لذا عندما سئل أحمد بن حنبل: "كيف يضع الرّجل يده بعد ما يرفع رأسه من الرّكوع؛ أيضع اليمنى على الشّمال أم يسدلها؟ قال: أرجو أن لا يضيّق ذلك إن شاء الله‌" (Abi al-Fadhl Salih,1988). وقال ابن حزم (Ibn Hazm,n.d): "ويستحبّ ‌أن ‌يضع ‌المصلّي ‌يده ‌اليمنى ‌على ‌كوع ‌يده اليسرى في الصّلاة، في وقوفه كلّه فيها". وقال الكاسانيّ (al-Kasani,1986): "‌وأمّا ‌وقت ‌الوضع-أي اليمنى على اليسرى- ‌فكلّما ‌فرغ ‌من ‌التّكبير ‌في ‌ظاهر ‌الرّواية، وروي عن محمّد في النّوادر أنه يرسلهما حالة الثّناء، فإذا فرغ منه يضع، بناء على أنّ الوضع سنّة القيام الّذي له قرار في ظاهر المذهب". وسئل ابن حجر الهيتميّ (Ibn Hajar al-Haitami,n.d): ‌هل ‌يضع ‌المصلّي ‌يديه ‌حين ‌يأتي ‌بذكر ‌الاعتدال ‌كما ‌يضعهما ‌بعد ‌التّحرّم أو يرسلهما؟ فأجاب بقوله: الّذي دلّ عليه كلام النّوويّ في شرح المهذّب؛ أنّه يضع يديه في الاعتدال كما يضعهما بعد التّحرّم، وعليه جريت في شرحي على الإرشاد وغيره، وجرى على ذلك بعض فقهاء الشّافعيّة.

كما يناقش هذا القول: أنّه إذا لم يثبت ذلك عن رسول الله، فهل -في المقابل- ثبت عنه -صلّى الله عليه وسلّم- أنه أرسل يديه حال قيامه من الرّكوع؟! فضلًا على أنّه لم ينقل عن أحد من أهل العلم من نسب هذا القول إلى البدعة، فليس للشّيخ فيه سلف. لذا فلا ينبغي نسبة هذا القول إلى البدعة، ولا ينبغي لبعض طلّاب الشّيخ أن يتعصّبوا لمذهبه هذا؛ لأنّ المسألة من المسائل الفرعيّة الّتي لا إنكار فيها.

الزّيادة في صلاة التّراويح على إحدى عشرة ركعة
ذهب الشّيخ الألبانيّ -رحمه الله- إلى وجوب الاقتصار على إحدى عشرة ركعة، وأنّ الزّيادة عليها بدعة، واستدلّ بحديث عائشة -رضي الله عنها- قَالَتْ: "مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ، وَلَا فِي غَيْرِهِ، عَلَى ‌إِحْدَى ‌عَشْرَةَ ‌رَكْعَةً" (al-Bukhari,1993,n1147, Muslim,1955,n125).
فقول الشّيخ -رحمه الله- بوجوب هذا العدد، وتبديع المخالف، ليس له سلف في ذلك، ولا ينبغي لبعض طلّاب العلم أو بعض الجهلة التّعصّب لهذا القول؛ لأنّ المسألة من المسائل الفرعيّة الّتي لا إنكار فيها، فحديث عائشة يدلّ على استحباب هذا العدد، وهو لا ينافي مشروعيّة غيره، الّذي دلّ على الزّيادة كحديث زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ؛ أَنَّهُ قَالَ: لَأَرْمُقَنَّ صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-اللَّيْلَةَ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا، ثُمَّ أَوْتَرَ، فَذَلِكَ ‌ثَلَاثَ ‌عَشْرَةَ ‌رَكْعَةً (Muslim,1955,n765).
لذا ذهب كثير من أهل العلم إلى أنّها عشرون ركعة؛ قال النّوويّ (al- Nawawi,n.d): مذهبنا ‌أنّها ‌عشرون ‌ركعة بعشر تسليمات غير الوتر، وذلك خمس ترويحات، والتّرويحة أربع ركعات بتسليمتين، هذا مذهبنا وبه قال أبو حنيفة وأصحابه وأحمد وداود وغيرهم، ونقله القاضي ‌عياض عن جمهور العلماء، قال: واحتجّ أصحابنا بما رواه البيهقيّ وغيره بالإسناد الصّحيح عن السّائب بن يزيد الصّحابيّ -رضي الله عنه- قال: ‌كَانُوا ‌يَقُومُونَ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -‌فِي ‌شَهْرِ ‌رَمَضَانَ ‌بِعِشْرِينَ ‌رَكْعَةً" قَالَ: "وَكَانُوا يَقْرَءُونَ بِالْمَئِينِ، وَكَانُوا يَتَوَكَّئُونَ عَلَى عِصِيِّهِمْ فِي عَهْدِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مِنْ شِدَّةِ الْقِيَامِ" (al-Baihaqi,n.d). فالمسألة خلافيّة، لا إنكار فيها، ولا يجوز رمي قول المخالف بالبدعة !


الانحراف، البدعة، التّبديع، الخلاف


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع