مدونة الأستاذ الدكتور محمد محمود كالو
كيف تبنى الأوطان؟ - ثامناً: نعمة التعددية -
الأستاذ الدكتور محمد محمود كالو | Prof. Dr. Mohamed KALOU
22/02/2025 القراءات: 3
كيف تبنى الأوطان؟ - ثامناً: نعمة التعددية -
التعددية في الفكر والمعتقد واللون لا تنافي استقرار الوطن وتقدمه، إذ ليس هناك مجتمع يخلو من التعدد، فالبدوي، والحضري، والرعوي، والريفي، والقروي، والمدني، والقَبَلِي، والعرقيّ، والكردي، والعربي، والتركي، مكونات اجتماعية وطنية، وكذا على مستوى العقائد، والمذاهب، والأفكار، فالتنوع الفطري ملازم لحياة البشر بحكم طبيعة الأشياء.
وقد صرح القرآن الكريم بالتعددية في مواطن وألمح إليها في مواطن أخرى، قال الله تعالى: (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ) [البقرة: 148].
وقال سبحانه وتعالى: {وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) [المطففين: 26].
وقال الباري سبحانه: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} [النمل: 17].
قال ابن إسحاق: "وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابًا بين المهاجرين والأنصار، وادَعَ فيه يهود وعاهدهم، وأقرهم على دينهم وأموالهم، وشرط لهم، واشترط عليهم..."، وقد شمل الميثاق والدستور النبوي محاور عدة أهمها:
التعايش السلمي، والأمن المجتمعي بين جميع أفراد المدينة المنورة، والمساواة بينهم جميعاً فيما يتعلق بمبدأ المواطنة الكاملة، من حيث المشاركة الفاعلة في مجالات الحياة المتعددة، واحترام وحماية حرية الاعتقاد وممارسته، والتكافل الاجتماعي بين فصائل الشعب، وحماية أهل الذمة والأقليات غير المسلمة، والنصح والبر بين المسلمين وأهل الكتاب، وغيرها.
وحوى هذا الكتاب النبوي الذي يمكن أن نطلق عليه اسم الدستور في العرف الحاضر ما يقارب سبعًا وأربعين بندًا أو مادة، جاءت كلها لتنظيم الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية بين المسلمين بعضهم البعض وبين غير المسلمين، ونظمت العلاقة بين أهل المدينة وغيرهم ممن يحاربهم أو يناصرهم، فعززت مفهوم سيادة القانون، وحقوق المواطنة، والمسؤولية الجماعية، كما عززت مفهوم التكافل الاجتماعي بين أفراد المجتمع الواحد، ومما جاء في الميثاق أن:
المهاجرين وهم أمة من المسلمين هم على ربعتهم، وهم يد على من سواهم، ويسعى بذمتهم أدناهم.
والأوس أمة من المسلمين، على ربعتهم، وهم يد على من سواهم، ويسعى بذمتهم أدناهم.
والخزرج أمة من المسلمين، على ربعتهم، وهم يد على من سواهم، ويسعى بذمتهم أدناهم.
وبنو عوف أمة من اليهود، على ربعتهم، وهم يد على من سواهم، ويسعى بذمتهم أدناهم.
وبنو الحارث أمة من اليهود... إلخ.
وبنو جشم أمة من اليهود... إلخ.
وقد بلغت بطون اليهود 12 بطناً بنص دستور المدينة المنورة.
ونلاحظ أن جملة (وهم على ربعتهم) نص عليها الدستور حرفياً عقب ذكر كل بطن من البطون: مهاجرون، أوس، خزرج، يهود.
وخير مثال على ذلك المدينة المنوَّرة؛ حيث كانت بوتقة صهرت جميع الأعراق، فكانت طيبة الطيِّبة نموذجًا أوْحَد قديمًا، متفردًا في التعددية المذهبية والعرقية، قبل أن تصل أوروبا إلى هذا، فقد ترجم السخاوي لكثير من أهل المدينة ما بين مشرقي ومغربي، وهندي ورومي، وكردي وصقلبي، وشامي ومصري ويمني، وأصفر وأحمر وأسود، وحنفي ومالكي وشافعي وحنبلي، وسني وشيعي، نعم كانت تدور مناوشات طفيفة هنا وهناك، مما لا يخلو منه مجتمع فيه مثل هذا، غير أن الجو العام كان منسجمًا وتعدُّديًّا، بلا تمييز ولا عنصرية ولا طائفية بغيضة.
قال الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [المائدة: 48].
يقول الفخر الرازي: إن المقصود بهذه الشرائع: التوراة والإنجيل والقرآن، وأن الأمم المخاطبة في هذه الآية: أمة موسى، وأمة عيسى، وأمة محمد عليهم السلام، وقوله “ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة” أي جماعة متفقة على شريعة واحدة أو ذوي أمة واحدة، أي دين واحد لا اختلاف فيه.
وقول الله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256] في ظاهرها حماية للإنسان الآخر من أن يقع عليه الإكراه من قِبَلكَ، ولكنها في باطنها حماية لك أيضاً أيها المسلم من أن يقع عليك الإكراه، فهي حماية للأخر وحماية للذات من أن يقع على كل منهما الإكراه.
وقد أجمعت أكثر المذاهب الإسلامية على القول بأن الإنسان حر مختار لأنه مسئول عن أفعاله، وهذه المسئولية لا تكون حين الإجبار والإكراه.
وهكذا قررت نصوص القرآن التعددية لكل ما هو تحت عرش الرحمن: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ. إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 18-19] خلقهم للاختلاف، وذلك مقتضى حكمته لتقرير الابتلاء.
لقد أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم دولة المدينة المنورة على أساس المساواة بين الناس جميعًا، وهذا أساس من أسس الاعتقاد في الإسلام، قال الله تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات: 13].
وهذا الأساس من أسس الاعتقاد الإسلامي، يجسد معنيين من معاني ثقافة المواطنة، هما معنى المساواة بين الناس دون التفريق بينهم على أساس الدين أو اللون أو العرق على اعتبار أن أصل وجودهم واحد، وأن الهدف من هذا الوجود هو التعاون الذي لا يتم إلا في إطار روح الجماعة والتكافل، وهذا مكون رئيس من مكونات المواطنة وثقافتها.
وهذه المساواة التي تمت في دولة المدينة والتي تجسد ثقافة المواطنة لم تكن أمرًا نظريًّا؛ بل كانت واقعًا عمليًّا يعيشه الناس في تفاصيل حياتهم اليومية على قاعدة «والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها»....
بناء الأوطان، نعمة التعددية ، المعتقد، التنوع، المذاهب
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع