مدوّنة الأستاذ المشارك الدّكتور منير علي عبد الرّب القباطي
الانحراف في باب البدعة والتّبديع في مسائل الخلاف الفقهيّ المعتبر (4)
الأستاذ المشارك الدّكتور منير علي عبد الرّب | Associate Professor Dr. Muneer Ali Abdul Rab
29/04/2023 القراءات: 1059
ضوابط الخلاف الفقهيّ المعتبر في المسائل الفقهيّة
سبق وأن ذكرنا في المقدّمة أنّ الخلاف أمر طبيعيّ وفطريّ، وهو من السّنن الكونيّة، حيث يستحال أن يتّفق النّاس على رأي واحد، وقد اختلف الصّحابة -رضي الله عنهم- في مسائل فقهيّة كثيرة، والفقهاء من بعدهم، وكتبهم خير شاهد على ذلك، حيث إنّها تزخر بهذا الخلاف. لكنّ الخلاف في هذه المسائل له ضوابط، ينبغي مراعاتها، وهي ما يلي:
الضّابط الأوّل: أن لا يكون الخلاف في المسائل الّتي تعتبر من أصول الدّين أو ممّا علم من الدّين بالضّرورة أو مجمعًا عليها، كوجوب الصّلوات الخمس، والزّكاة، وصوم رمضان، والحجّ لمن استطاع إليه سبيلًا، وحرمة الزّنا والخمر وقتل النّفس، فالخلاف في هذه المسائل غير سائغ؛ لأنّ دلائلها الشّرعيّة متواترة، وقد انعقد عليها الإجماع، والمخالف فيها من أهل البدع والأهواء. قال الزّركشيّ (al-Zarkashi,1994): "وإن أنكر أصل الإجماع، وأنّه لا يحتجّ به، فالقول في تكفيره، كالقول في تكفير أهل البدع والأهواء... ومن أنكر حكم الإجماع، كقوله: ليست الصّلاة واجبة، وليس لبنت الابن مع الأمّ السّدس؛ فإن كان قد بلغه الإجماع في ذلك وأنكره، ولجّ فيه، فإن كانت معرفته ظاهرة كالصّلاة كفر.
الضّابط الثّاني: أن لا يكون الخلاف في المسائل الّتي ورد فيها نصّ شرعيّ صحيح صريح واضح، فالخلاف فيها غير سائغ، ويجب الإنكار على المخالف، كالقول بجواز حلق اللّحية، والقول بجواز نكاح المتعة، ونكاح المحلّل، والقول بجواز أخذ الفائدة على الأموال المودعة في البنوك، وغيرها الكثير. قال الشّافعيّ (al-Shafi’i,1938): "كلّ ما أقام الله به الحجّة في كتابه أو على لسان نبيّه منصوصًا بيّنًا، لم يحلّ الاختلاف فيه لمن علمه"، وقال شمس الدّين السّفارينيّ (al-Safarini,1993): وأمّا العمل إذا كان على خلاف سنّة أو إجماع وجب إنكاره بحسب درجات الإنكار. وقال في موضع آخر: إنّما يتمشّى عدم الإنكار في مسائل الاختلاف حيث لم يخالف نصًّا صريحًا من كتاب وسنّة صحيحة صريحة وإجماع قديم، وأمّا متى خالفت ذلك ساغ الإنكار.
الضّابط الثّالث: أن لا يكون الخلاف في المسألة مبنيًّا على أصل غير معتبر، كالعقل، أو على مصلحة وهميّة، أو على حيلة مذمومة، أو أن يردّ المخالف ما صحّ من خبر الآحاد لما تعمّ به البلوى، أو لأجل مخالفة الرّاوي غير الفقيه لروايته، فالخلاف فيها غير سائغ؛ لأنّه مبنيّ على أصل غير معتبر، ويجب الإنكار على المخالف.
الضّابط الرّابع: أن يكون الخلاف في المسائل الفقهيّة صادرًا عن أهل العلم الرّاسخين المجتهدين، الّذين يبذلون قصارى وسعهم وغاية جهدهم للوصول إلى الحقّ، فلا يعتبر خلاف الجاهل وعوامّ النّاس أو المبتدئ في طلب العلم. أمّا إذا كان الخلاف في المسائل الاجتهاديّة، الّتي ليست من أصول الدّين ولا ممّا علم من الدّين بالضّرورة ولا مجمعًا عليها، أو لم يرد فيها نصّ شرعيّ، أو ورد فيها نصّ يحتمل أكثر من معنى، أو تعارضت الأدلّة فيها، وصدر الخلاف فيها عن أهل العلم المجتهدين، فالخلاف فيها معتبر وسائغ، ومن نصوص أهل العلم في ذلك ما يلي:
• قال إسماعيل بن سعيد الشّالنجيّ: سألت أحمد: هل ترى بأسًا أن يصلّي الرّجل تطوّعًا بعد العصر والشّمس بيضاء مرتفعة؟ قال: لا نفعله، ولا نعيب فاعله (Ibn Rajab,1996).
• ونقل ابن مفلح (Ibn Muflih,n.d) عن ابن قدامة أنّه قال: "لا ينبغي لأحد أن ينكر على غيره العمل بمذهبه، فإنّه لا إنكار على المجتهدات".
• وقال ابن تيميّة (Ibn-Taimiyyah,1995): من عمل في مسائل الاجتهاد بقول بعض العلماء لم ينكر عليه ولم يهجر، ومن عمل بأحد القولين لم ينكر عليه، وإذا كان في المسألة قولان: فإن كان الإنسان يظهر له رجحان أحد القولين عمل به، وإلّا قلّد بعض العلماء الّذين يعتمد عليهم في بيان أرجح القولين. وقال في موضع آخر من المصدر نفسه: "ولهذا قال العلماء المصنّفون في الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر من أصحاب الشّافعيّ وغيره: إنّ مثل هذه المسائل الاجتهاديّة لا تنكر باليد وليس لأحد أن يلزم النّاس باتّباعه فيها؛ ولكن يتكلّم فيها بالحجج العلميّة، فمن تبيّن له صحّة أحد القولين تبعه، ومن قلّد أهل القول الآخر فلا إنكار عليه".
• وقال ابن القيّم (Ibn al-Qayyim,1991): "إذا لم يكن في المسألة سنّة ولا إجماع وللاجتهاد فيها مساغ، لم تنكر على من عمل بها مجتهدًا أو مقلّدا".
وقال ابن حجر الهيتميّ (Ibn Hajar al-Haitami,1983): "ليس للمفتي ولا للقاضي أن يعترض على من يخالفه، إذا لم يخالف نصًّا أو إجماعًا أو قياسًا جليًّا"،
وهناك نصوص أخرى، لا يسع المقال لذكرها. فالخلاف في هذه المسائل الاجتهاديّة سائغ، ومشهور بين أهل العلم قديمًا وحديثًا، ولا إنكار فيه، وإن ندب المخالف على جهة النّصيحة -كما تقدّم من كلام النّوويّ- إلى الخروج من الخلاف برفق، فهو حسن محبوب؛ لأنّ العلماء متّفقون على الحثّ على الخروج من الخلاف، إذا لم يؤدِ إلى إخلال بسنّة أو وقوع في خلاف آخر.
الانحراف، البدعة، الضّوابط، الخلاف
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع