مدونة الباحث/محمد محمد محمود إبراهيم


{أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَ}

باحث /محمد محمد محمود إبراهيم | MOHAMED MOHAMED MAHMOUD IBRAHIM


07/01/2023 القراءات: 483  


{أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَ}
قال تعالى:
{وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا}.
إذا أراد الله إهلاك قرية من القرى فإنه يقيم عليهم الحجة قبل إهلاكهم، إنه يأمرهم بالطاعة والعبادة وينهاهم عن الفسوق والعصيان. ولكن المترفين في تلك القرية يعصون أمر الله، ويرفضون طاعته، ويختارون الفسوق والعصيان. عندها يحق عليها أمر الله، ويوقع بها عذابه، ويدمرها تدميراً.
هذا هو المعنى الصحيح، والفهم المستقيم للآية.
لكن بعض المسلمين قد يخطئ النظر فيها، ويخطئ فهم معناها، ويخطئ القول في تفسيرها، فيقول كلاماً، ينسب فيه لله ما لا يليق، ويثير منه إشكالاتٍ وهمية.
معنى الآية عند هؤلاء: أنّ الله يأمر المترفين في الآية بالفسق والعصيان، فيفسقون ويعصون، فيدمرهم الله تدميراً.
وهذا كلامٌ خاطئٌ، فيه نسبة ما لا يليق إلى الله، وزَعْم أنه سبحانه يأمر بالفسق والعصيان.
والقرآن صريحٌ في نفي هذا عن الله سبحانه بآيات صريحة.
من ذلك قوله تعالى: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ}.
وقد سبق أن تحدثنا عن هذه الآية، وصحَّحْنا القول فيها، وصوَّبْنا الفهم لها.
اتفق المفسرون على أن الأمر في هذه الآية: {أَمَرْنا مُتْرَفيها فَفَسَقوا فيها}، ليس من باب الأمر بالفسق والمعصية لأن الله لا يأمر بالفحشاء.
ثم اختلفوا في المراد بالأمر.
فالإمام الزمخشري يرى أنه أمْرٌ لهم بالفسق مجازاً وليس حقيقة، ووجه المجاز عنده، أنه أنعم عليهم بالمال ليشكروا، فجعلوا هذا المال وسيلةً للفسق والعصيان.
قال في الكشاف: " أمرناهم بالفسق ففعلوا. والأمر مجاز، لأن حقيقة أمرهم بالفسق أن يقول لهم افسقوا، وهذا لا يكون. فبقي أن يكون مجازاً.
ووجْه المجاز: أنه صب عليهم النعمة صباً، فجعلوها ذريعةً إلى المعاصي واتباع الشهوات، فكأنهم مأمورون بذلك، لتسبب إيلاء النعمة فيه. وإنما خوَّلهم إياها ليشكروا ويعملوا فيها الخير، ويتمكنوا من الإحسان والبر، كما خلقهم أصحاء أقوياء، وأقدرهم على الخير والشر، وطلب منهم إيثار الطاعة على المعصية. فآثروا الفسوق، فلما فسقوا حق عليهم القول، وهو كلمة العذاب، فدمرهم ".
وكلام الزمخشري هنا لطيفٌ وطيبٌ وحسن. حيث اعتبر نعمة الله على الناس، ذريعةً للطاعة، وسبباً للتقوى، ووسيلة للشكر.
وهؤلاء المترفون لم يستخدموا هذه النعمة كما يريد الله، ولم يؤدوا فيها حق الله، بل جعلوها ذريعة للفسق والمعصية، وهم لولا هذه النعمة لما تمكنوا من المعصية، ولولا الترف لما تمكنوا من الفسوق واتباع الشهوات.
لقد لاحظ الزمخشري تصرفهم في المال، واستخدامهم للنعمة. وهذا الْتفاتٌ منه إلى أهمية السلوك والتصرف والممارسة العملية، لأن لسان الحال أبلغ من لسان المقال، ومجال العمل أكثر دلالة على حقيقة ما في النفس.
وذهب كثيرٌ من المفسرين إلى أن المراد بالأمر في الآية، الأمر بالمعروف الذي هو ضد النهي، وأنه على ظاهره، وأن متعلقه محذوف، وأن فيها تقديراً.
ومعنى الآية عند هؤلاء: {أمرنا مترفيها}: بطاعة الله وتوحيده، وتصديق رسله، واتباعهم فيما جاءوا به. {ففسقوا}: أي خرجوا عن طاعة أمر ربهم، وعصوه وكذبوا رسله. {فحق عليها القول}: أي وجب عليها الوعيد. {فدمرناها تدميراً}: أي أهلكناها إهلاكاً مستأصلاً، وأكد فعل التدمير بمصدره للمبالغة في شدة الهلاك الواقع بهم.
وقد علق الإمام الشنقيطي في أضواء البيان على هذا القول الذي أورده بقوله: " وهذا القول الذي هو الحق في هذه الآية تشهد له آيات كثيرة ".
وبقوله: " وهذا القول الصحيح في الآية جارٍ على الأسلوب العربي المألوف، من قولهم: أمرته فعصاني، أي أمرته بالطاعة فعصى، وليس المعنى: أمرته بالعصيان ".
وذهب بعضهم إلى أن المراد بالأمر في الآية: أمرٌ كونيٌّ قدَريّ. أي قدَّرنا عليهم ذلك وسخرناهم له، لأن كُلاً ميسرٌ لما خلق له.
وقال بعضهم بأن (أَمَرْنا) بمعنى أكثرنا، أي أكثرنا مترفيها ففسقوا فيها.
وقال بعضهم بأن الميم فيها مشددة " أَمَّرْنا " من التأمير والسلطان، وليس من الأمر، أي جعلنا المترفين أمراء وسلاطين. فيتسلطون على الآخرين ويحكمونهم، وينتج عن حكمهم الفسق والعصيان، لأن الفسق ملازمٌ للترف الفاجر.
قال الإِمام الراغب في المفردات: " وقوله: {أَمَرْنا مترفيها}، أي أمرناهم بالطاعة، وقيل: معناه كثّرناهم. وقال أبو عمرو: لا يقال: أَمَرت بالتخفيف في معنى كثرت، وإنما يقال: أمَّرْت، وآمَرْت.
وقال أبو عبيدة: قد يقال: أَمَرْت بالتخفيف، نحو خير المال مُهْرَة مأمورة. وقُرئ: أَمَّرنا: أي جعلناهم أمراء، وعلى هذا حمل قوله تعالى: {وَكَذلِكَ جَعَلْنا في كُل قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِميها لِيَمْكُروا فيها}. وقُرئ أَمَّرنا: بمعنى أكثرنا ".


{أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَ}


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع