مدونة د. محمد سلامة الغنيمي


السيادة الحضارية: أداة النفوذ في عالم متعدد الأقطاب

د. محمد سلامة غنيم | Dr. Mohammed Salama Ghonaim


06/11/2024 القراءات: 43  


تعتبر السيادة الحضارية، في عالمنا المعاصر، أداةً فاعلة في صراع النفوذ والتأثير بين الدول والحضارات. فهي تتجاوز القوة العسكرية والاقتصادية لتصل إلى صميم الهوية والقيم، حيث تُبنى على قدرة الحضارة على نشر أفكارها وقيمها وتأثيرها في سلوكيات الأفراد والمجتمعات، فالدولة التي تستطيع نشر معارفها وثقافتها على نطاق واسع، وتبني جسورًا معرفية مع الشعوب الأخرى، تكتسب نفوذاً هائلاً، حتى وإن كانت أضعف من الناحية العسكرية أو الاقتصادية.
1- الدروس المستفادة من التاريخ:
لقد استوعبت الدول الاستعمارية مبكرًا أهمية السيادة الحضارية، فبعد أن فشلت في فرض هيمنتها بالقوة العسكرية، لجأت إلى أسلوب أكثر دهاءً، وهو نشر ثقافتها ومعارفها في العالم الثالث، عبر مؤسسات تعليمية وإعلامية وثقافية عالمية، بهدف تشكيل وعي الشعوب المستهدفة وتبعية أفكارها، ومن ثم أنشأت مؤسسات مثل اليونسكو، ومؤسسات المعونات الدولية، واستغلت شبكات الكمبيوتر العالمية، ووظفت مؤسسات ضخمة كفورد وكارنيجي لتحقيق هذا الهدف.
تاريخ الحضارة الإسلامية حافل بالأمثلة التي تؤكد أهمية السيادة الحضارية، ففي العصور الذهبية للإسلام، انتشرت الثقافة الإسلامية في أرجاء واسعة من العالم، ليس بفضل القوة العسكرية فحسب، بل بفضل جاذبية الحضارة الإسلامية وقيمها السمحة.
2- التحديات التي تواجه العالم الإسلامي:
في المقابل، يواجه العالم اليوم أزمة حضارية عميقة، حيث طغت الثقافة المادية على الأخضر واليابس، وأدت إلى تدهور القيم الإنسانية، وفي هذا السياق، تبرز أهمية الثقافة الإسلامية، التي تدعو إلى إعمار الأرض وإصلاحها، وتحقيق السلام والعدل والرحمة للجميع. إن الإسلام دين الحضارة والبناء، وهو يدعو إلى نشر المعرفة والثقافة، ويجعل من الدعوة إلى الله من أفضل الأعمال وأرفع الدرجات.
ومع ذلك، فإن العالم الإسلامي يعاني من قصور شديد في نشر ثقافته، مما جعله دولة مستهلكة للثقافات الأخرى، واليوم يواجه العالم الإسلامي تحديات كبيرة في مجال السيادة الحضارية، تتمثل في:
a) التجزئة والانقسام: يعاني العالم الإسلامي من تشتت وتعدد التيارات الفكرية، التي تؤدي إلى تصارع المسلمون بين من يدافعون عن التراث بكل ما فيه من قيود، ومن يستسلمون للتحديث الأعمى ويتبنون كل ما هو غربي دون تمحيص.مما يضعف تأثيره الحضاري.
b) التحديات الثقافية: تواجه الثقافة الإسلامية تحديات كبيرة من الثقافات الأخرى، خاصة الثقافة الغربية، والتي تمتلك أدواتًا ضخمة لنشر أفكارها.
c) ضعف المؤسسات الثقافية: يعاني العالم الإسلامي من ضعف المؤسسات الثقافية المتخصصة في إنتاج المعرفة ونشرها.
d) غياب الرؤية الشاملة: غياب رؤية واضحة وشاملة لتطوير الثقافة الإسلامية وتقديمها للعالم.
ولعلنا في هذا الصدد نتذكر أحوال العالم الإسلام إبان الحملات الصليبية والغزو المغولي رغم اجتياحهم العالم الإسلامي وتفوقهم العسكري إلا أن السيادة ظلت في العالم الإسلامي بحكم شيوع ثقافته في تلك الآونة، وسرعان ما تصدر المشهد الدولي على يد العثمانيين وغيرهم.
3- دروس من التاريخ:
يقدم لنا التاريخ الإسلامي العديد من الدروس والعبر، منها:
• أهمية الوحدة: إن الوحدة الإسلامية هي مفتاح القوة والازدهار.
• ضرورة التجديد: يجب أن يكون هناك توازن بين التمسك بالتراث والتجديد المستمر.
• أهمية التعليم: يجب الاهتمام بالتعليم ونشر المعرفة في جميع المجالات.
• دور العلماء: يجب أن يلعب العلماء والمثقفون دورًا رائدًا في نشر الثقافة الإسلامية.
4- رؤية مستقبلية:
لتعزيز السيادة الحضارية، يجب على العالم الإسلامي اتخاذ مجموعة من الإجراءات، منها:
a) توحيد الرؤية: يجب توحيد الرؤية حول هوية الحضارة الإسلامية وقيمها، والعمل على بناء توافق وطني حول هذه القيم.
b) تعزيز التعليم: يجب الاهتمام بالتعليم ونشر المعرفة في جميع المجالات، مع التركيز على العلوم الإنسانية والدينية.
c) دعم البحث العلمي: يجب دعم البحث العلمي في مختلف المجالات، وتشجيع الإبداع والابتكار.
d) بناء المؤسسات الثقافية: يجب بناء مؤسسات ثقافية قوية ومتخصصة في إنتاج المعرفة ونشرها.
e) الاستفادة من التكنولوجيا: يجب الاستفادة من التكنولوجيا الحديثة في نشر الثقافة الإسلامية، والتواصل مع العالم.
f) الحوار مع الآخر: يجب فتح حوار بناء مع الحضارات الأخرى، وتبادل الخبرات والمعارف، مع الحفاظ على الهوية الإسلامية.
5- خاتمة:
إن السيادة الحضارية ليست مجرد هدف، بل هي ضرورة حتمية لبقاء الأمة وتقدمها. فمن خلال نشر ثقافتها وقيمها، تستطيع الأمة أن تؤثر في العالم وتشكل مستقبله.


تربية، فكر، نهضة


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع