مدونة الباحث/محمد محمد محمود إبراهيم


البصيرة والنظر في العواقب

باحث /محمد محمد محمود إبراهيم | MOHAMED MOHAMED MAHMOUD IBRAHIM


13/07/2023 القراءات: 207  


البصيرة والنظر في العواقب
كان ملوك فارس يعتبرون أحوال الحواشي بإيفاد التحف على أيدي مستحسنات الجواري ويأمرونهن بالتدريج حتى إذا أطالوا الجلوس فتدب بوادي الشهوة قتلوا أولئك، وإذا أرادوا مطالعة عقائد الفساد دسوا من يتابعهم على ذم الدولة فإذا أظهروا ما في نفوسهم استأصلوهم قال ابن عقيل في الفنون: فينبغي الحذر من هذه الأحوال، ومن مخض الرأي كانت زبدته الصواب.
وذكر ابن الجوزي هذا المعنى في غير موضع، وذكر من ذلك حكايات وقال ليحذر الحازم من الاشتراك وقال الرجل من عمل بالحزم وحذر الجائزات، والأبله الذي يعمل على الظواهر ويثق من لم يجرب.
وقال أيضا أبو الفرج في كتابه السر المصون (فصل مهم) إنما فضل العقل على الحس بالنظر في العواقب، فإن الحس لا يرى الحاضر، والعقل يلاحظ الآخرة ويعمل على ما يتصور أن يقع، فلا ينبغي للعاقل أن يغفل عن تلمح العواقب فمن ذلك أن التكاسل في طلب العلم وإيثار عاجل الراحة يوجب حسرات دائمة لا تفي لذة البطالة بمعشار تلك الحسرة، ولقد كان يجلس إلي أخي وهو عامي فقير، فأقول في نفسي قد تساوينا في هذه اللحظة فأين تعبي في طلب العلم؟ وأين لذة بطالته؟
ومن ذلك أن الإنسان قد يجهل بعض العلم فيستحي من السؤال والطلب لكبر سنه ولئلا يرى بعين الجهل فيلقى من الفضيحة إن سئل عن ذلك أضعاف ما آثر من الحياء.
ومن ذلك الطبع يطالب بالعمل بمقتضى الحالة الحاضرة مثل جواب
جاهل وقت الغضب، ثم يقع الندم في ثاني الحال على أن لذة الحلم أوفى من الانتقام، وربما أثر ذلك الحقد من الجاهل فتمكن فبالغ في الأذى له.
ومن ذلك أن يعادي الناس وما يأمن أن يرتفع المعادى فيؤذيه. وإنما ينبغي أن يضمر عداوة العدو.
ومن ذلك أن يحب شخصا فيفشي إليه أسراره ثم تقع بينهما عداوة فيظهر ذلك عليه.
ومن ذلك أن يرى المال الكثير فينفق ناسيا أن ذلك يفنى فيقع له في ثاني الحال حوائج فيلقى من الندم أضعاف ما التذ به في النفقة، فينبغي لمن رزق مالا أن يصور السن والعجز عن الكسب، ويمثل ذهاب الجاه في الطلب من الناس، ليحفظ ما معه. ومن ذلك أن ينبسط ذو دولة في دولته فإذا عزل ندم على ما فعل وإنما ينبغي أن يصور العزل ويعمل بمقتضاه.
ومن ذلك أن يؤثر لذة مطعم فيشبع فيفوته قيام الليل، أو يؤثر لذة النوم فيفوته التهجد، أو يأكل أو يجامع بشره فيمرض، أو يشتهي جماع سوداء وينسى أنها ربما حملت فجاءت ببنت سوداء، فكم من حسرة تقع له على مدى الزمان كلما رأى تلك البنت، وقد كان في زماننا من جامع سوداء فجاءت له بولد فافتضح به منهم صاحب المخزن، وقاضي القضاة الدامغاني وكان تاجرا قد ولد له ابن أسود فلما رآه قال لعن الله شهوتي.
ومن ذلك اشتغال العالم بصورة العلم وإنما يراد العمل به والإخلاص في طلبه فيذهب الزمان في حب الصيت وطلب مدح الناس فيقع الخسران إذا حصل ما في الصدور.
ومن ذلك اقتناع العالم بطرف من العلم، فأين مزاحمة الكاملين والنظر في عواقب أحوالهم؟ وقد يؤثر الأسهل كإيثار علم الحديث على الفقه ومعاناة الدرج تسهل عند العلو.
ومن ذلك الإكثار من الجماع ناسيا مغبته وأنه يضعف البدن ويؤذي فالطبع يرى اللذة الحاضرة والعقل يتأمل، وشرح هذا يطول لكن قد نبهت على أصوله، لقد جئت يوما من حر شديد فتعجلت راحة البرودة فنزعت ثوبي فأصابني زكام أشرفت منه على الموت، ولو صبرت ساعة ربحت ما لقيت، فقس كل لذة عاجلة ودع العقل يتلمح عواقبها والله أعلم.
وقال أيضا تأملت اللذات فرأيتها بين حسي ومعنوي فأما الحسيات فليست بشيء عند النفوس الشريفة، إنما تراد لغيرها كالنكاح للولد ولزوال الفضول المؤذية، والطعام للتغذي والتداوي، والمال للإعداد وللحوائج والاستغناء عن الخلق، وإنما جعلت اللذات في تحصيل هذه الأشياء كالبرطيل حتى يحصلها وإن طلب منها شيء لنفس الالتذاذ فإن للطبع حظا، إلا أن كل لذة حسية تلازمها آفات لا تكاد تفي باللذة فإن النكاح لذة ساعة فيلازمه عاجلا ذهاب القوة وتكلف الغسل ومداراة المرأة والنفقة عليها وعلى الأولاد، فاللذة خطفت خطف برق وما لازمها صواعق وما يلازم المطعم معلوم من الطهارة وغير ذلك.
ومعلوم ما يلازم حب المال من معاناة الكسب والخوض في الشبهات وصرف القلب عن الفكر في الآخرة شغلا بالاكتساب وعلى هذا جميع اللذات الحسية فينبغي أن يتناول منها الضروري فتقع معاناة ضرورية فتحصل قناعة بمقدار الكفاية والعفة عن فضول الشهوات.
وإنما اللذة الكاملة الأمور المعنوية وهي العلم والإدراك لحقائق الأمور والارتفاع بالكمال على الناقصين، والانتقال من الأعداء، إلا أنه قد تكون لذة العفو أطيب؛ لأنها لا تقع إلا في حق ذليل قد قهر، والصبر على نيل كل فضيلة وعن كل رذيلة، والملاحظة لعواقب الأمور، وعلو الهمة فلا تقصر عن بلوغ غاية تراد به فضيلة، ومن علم أن الدنيا تزول، وأن مراتب
الناس في الجنة على قدر أعمالهم في الدنيا، نافس أولئك قبل أن يصل إلى هناك ليقدم على مفضولين له.


البصيرة والنظر في العواقب


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع