مدونة الباحث/محمد محمد محمود إبراهيم
سابق ، ومقتصد ، وظالم لنفسه
باحث /محمد محمد محمود إبراهيم | MOHAMED MOHAMED MAHMOUD IBRAHIM
12/01/2023 القراءات: 407
ضرب ابن رجب رحمه الله مثلا جامعا لأحوال الخلق كلهم بالنسبة إلى دعوة الرسول وانقسامهم في إجابة دعوته إلى سابق ، ومقتصد ، وظالم لنفسه ، وبه يظهر فضل العلماء الربانيين على غيرهم من الناس أجمعين .
فنقول : مثل ذلك كمثل رسول قدم من بلد الملك الأعظم فأدى رسالة الملك إلى سائر البلدان ، وظهر لهم صدقه في رسالته .
فكان مضمون الرسالة التي أداها من الملك إلى رعيته أن هذا الملك لا إحسان أتم من إحسانه ، ولا عدل أكمل من عدله ، ولا بطش أشد من بطشه .
وأنه لا بد أن يستدعي الرعية كلهم إليه ليقيموا عنده . فمن قدم بإحسان جزاه بإحسانه أتم الجزاء ، ومن قدم عليه بإساءة جزاه بإساءته أشد الجزاء .
وأنه يحب كذا وكذا ، ويكره كذا وكذا لم يدع شيئا مما تعمله الرعية إلا أخبرهم بما يحبه الملك منه وما يكره ، وأمرهم بالتجهز والسير إلى دار الملك ، التي فيها الإقامة .
وأخبرهم بخراب جميع البلاد سوى ذلك البلد .
وأن من لم يتجهز للسير بعث إليه الملك من يزعجه عن وطنه وينقله منه على أسوأ حال .
وجعل يصف صفات هذا الملك الحسنى من الجمال والكمال والجلال والإفضال .
فانقسم الناس في إجابة هذا الرسول الداعي إلى الملك أقساما عديدة فمنهم من صدقه ولم يكن له هم إلا السؤال عما يحب هذا الملك من الرعية استصحابه إلى داره عند السير إليه .
فاشتغل بتخليصه لنفسه وبدعاء من يمكنه دعاؤه من الخلق إلى ذلك ، وعما يكرهه هذا الملك فاجتنبه .
وأمر الناس باجتنابه وجعل همه الأعظم السؤال عن صفات الملك وعظمته وإفضاله ، فزاد بذلك محبة لهذا الملك وإجلاله والشوق إلى لقائه .
فارتحل إلى الملك مستصحبا لأنفس ما قدر عليه مما يحبه الملك ويرتضيه ، واستصحب معه ركبا عظيما على مثل حاله سار بهم إلى دار الملك .
وقد عرف من جهة ذلك الدليل الذي هو الرسول الصادق أقرب الطرق التي يتوصل بالسير فيها إلى الملك ، وما ينفع من التزود للمسير فيها . وعمل بمقتضى ذلك في السير هو ومن اتبعه .
فهذه صفة العلماء الربانيين الذين اهتدوا وهدوا الخلق معهم إلى طريق الله .
وهؤلاء يقدمون على الملك قدوم الغائب على أهله المنتظرين لقدومه المشتاقين إليه أشد الشوق .
شعرا: إذا خدم السلطان قوم ليشرفوا
( به وينالوا كل ما يتشوفوا
(
خدمت إلهي واعتصمت بحبله
( ليعصمني من كل ما أتخوف
(
ويكرمني بالعلم والحلم والتقى
( ويؤتيني ما ليس يفنى ويتلف
(
فخدمت من يعطي السلاطين ملكهم
( وينزعه عنهم أجل وأشرف
(
وقسم آخرون اشتغلوا بالتأهب بمسيرهم بأنفسهم إلى الملك ولم يتفرغوا لاستصحاب غيرهم معهم .
وهذه صفة العباد الذين تعلموا ما ينفعهم في خاصة أنفسهم واشتغلوا بالعمل بمقتضاه .
وقسم آخرون تشبهوا بأحد القسمين وأظهروا للناس أنهم منهم وأن قصدهم التزود للرحيل ، وإنما كان قصدهم استيطان دارهم التي هم بها مستوطنون .
وحال هؤلاء عند الملك إذا قدموا عليه شر حال ، ويقال لهم اطلبوا جزاء أعمالكم ممن عملتم لهم ، فليس لكم عندنا من خلاق . وهم أول من تسعر بهم من أهل التوحيد .
وقسم آخرون فهموا ما أراده الرسول من رسالة الملك لكنهم غلب عليهم الكسل والتقاعد عن التزود للسفر واستصحاب ما يحب الملك واجتناب ما يكره .
وهؤلاء العلماء الذين لا يعملون بعلمهم ، وهم على شفا هلكة ، وربما انتفع غيرهم بمعرفتهم ووصفهم لطريق السير ، فسار المتعلمون فنجوا وانقطع من تعلموا منهم فهلكوا .
وقسم آخرون صدقوا الرسول فيما دعا إليه من دعوة الملك لكنهم لم يتعلموا منه طريق السير ، ولا معرفة تفاصيل ما يحبه الملك وما يكرهه ، فساروا بأنفسهم ورموا أنفسهم في طريق شاقة ، ومخاوف ، وقفار وعرة فهلك أكثرهم ، وانقطعوا في الطريق ، ولم يصلوا إلى دار الملك . وهؤلاء الذين يعملون بغير علم .
وقسم لم يهتموا بهذه الرسالة ، ولا رفعوا بها رأسا ، واشتغلوا بمصالح إقامتهم في أوطانهم التي أخبر الرسول بخرابها .
وهؤلاء منهم من كذب الرسول بالكلية ، ومنهم من صدقه بالقول ولكنه لم يشتغل بمعرفة ما دل عليه ولا بالعمل به . وهؤلاء عموم الخلق المعرضون عن العلم والعمل .
ومنهم الكفار والمنافقون ومنهم العصاة الظالمون لأنفسهم فلا يشعرون إلا وقد طرقهم داعي الملك فأجلاهم عن أوطانهم واستدعاهم إلى الملك فقدموا عليه قدوم الآبق على سيده الغضبان عليه .
فإذا تأملت أقسام الناس المذكورة لم تجد أشرف ولا أقرب عند الملك من العلماء الربانيين . فهم أفضل الخلق بعد المرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين أ.هـ .
سابق ، ومقتصد ، وظالم لنفسه
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع