مدونة محمد كريم الساعدي


الكتابة في درجة الصفر / الجزء الأول

أ.د محمد كريم الساعدي | Mohamad kareem Alsaadi


03/12/2022 القراءات: 1743  


يوجد في مصطلح الكتابة آراء مختلفة لا يمكن أن تكون متطابقة من حيث الفهم وما يراد منها في العملية الإبداعية ، كون الكتابة ركنًا مهمًا في المعرفة الثقافية لدى الشعوب المختلفة من حيث لغاتهم وغاياتهم التي يسيرون إليها ، والكتابة هي في حد ذاتها قد تكون وسيلة في غايات مختلفة لدى بني البشر ، أو تكون غاية في حد ذاتها من خلال البحث فيها وحسب ما يراد من إيجادها في الحياة على مختلف الجوانب الإنسانية والأجتماعية والنفسية وغيرها .
إنَّ التاريخ الفكري والمعرفي في مجالات عدة حفل بعدد كبير من المفكرين والفلاسفة الذين عملوا على تكوين مفهوم للكتابة وصياغة مصطلحاتها إبتداءً من الكتابات الأولى التي أبتدعها الإنسان في بداية التاريخ ، ومرورًا بمراحل تقدم الحضارات والأمم وصولاً إلى التفرعات الكثيرة التي أصبحت تتميز بها العلوم والفنون والآداب ، وأهم صور للتميز في هذه الاختصاصات المختلفة تأتي الكتابة . فهي أداة مهمة في المعرفة ، وأداة مهمة في التواصل ، ووسيلة فاعلة في التخاطب ، وهي غاية يريد المبدع أن تكون له أطار معرفي وثقافي يظهر من خلالها الى العالم ، فشغلت التاريخ وجعلت منه عِبرة وعَبرة ـ وجعلت منه منطلق في أخذ التجارب الماضية وتقديمها في الحاضر والاستفادة منها في المستقبل، فهي لم تقتصر على حقل من دون آخر ، وهي لا تنحاز إلى مجال دون آخر ، ولا تشتغل على ظاهر الأشياء فقط من دون باطنها ، ولا على سياق محدد في مجال معرفي ، ولم تكن ملتزمة بالمعرفة في مجالها العالي من دون ما هو أقل في التداولات ومنها اليومية ، وبذلك فالكتابة " لم تعد تقتصر وظيفتها على الإيصال أو التعبير ، بل تفرض (ما وراء) لغة هو في آن ، التاريخ والجانب الذي نتحيز له في ذلك التاريخ "(رولان بارت : ص27، ص28 ) ، وهي عالم مستقل عن كل ما حولها ولكنها داخلة في كل ما يدور حولها من صيغ وتعابير ومدلولات تشكل المعاني في مختلف المجالات ، فالكتابة عالم واسع تنشط فيه المعرفة والثقافة في مختلف أصنافها .
إنَّ الكتابة في وجودها المعرفي تعد مكاناً جيداً للبحث ، البحث من أجل معرفة كنهها وماهية وجودها الذي يسهم في تشكيل المعنى للأشياء والموجودات ، وفي بناء ما هو مقصود منها ، فهي ليست حكراً على أحد ، ولا على اختصاص معين ، ولا على مفكر قد يكون أبدع فيها ، ومن ثم فأنها لم تخضع له بشكل مطلق ، ولا حتى بشكل جزئي ،لذا عمل العديد من المفكرين محاولين التعرف عليها ورسم صورة لها في وعيه تختلف عن الآخرين ، ومن بين من تداول في بحثه عنها وتعامل في ما يريد أن يكّون عن طريقه لفهمها ، وتقديم تصورات عن ما يظنه فيها من خصائص وسمات تفرد به الكتابة .
من بين الباحثين في مجال الكتابة الفرنسي (رولان بارت1915- 1980 ) الفيلسوف والناقد الأدبي والدلالي والباحث الإجتماعي ، ويعد من المفكرين الذين عملوا على دراسة الكتابة والتبحر في علومها وفنونها ، وأنتج عنها من بين مؤلفاته كتاب (درجة الصفر للكتابة) الذي نحاول أن نقدم من خلاله أكثر من مقال عن مصطلح الكتابة لديه وما يعده تصور لمفهومها بعد أن بحث في مجالها الصفري ، وإرجاعه الى تصفير مفهومها وما هو اختلافها في فترة ما عن الأخرى ، وخاصة في تعامله مع مفهومها العام من جهة ، واشتغالها في حقل الأدب بصورة خاصة من جهة أخرى وأهم تصوراته عن اللغة والأساليب المشكلة لها كون أن اللغة هي مادتها وما يختلف بينها كمادة مستقلة ، أو مادة داخلة في مجال ما ، فيقول : " إذن ، أن نرسم تاريخاً للغة الأدبية ليس هو تاريخ اللغة ، ولا تاريخ الأساليب ، بل مجرد تاريخ لإشارات الإشارات الأدب ، كما يمكننا أن نؤمل بأن التاريخ الشكلي سيظهر ، بطريقته الخاصة التي لا تقل وضوحاً علاقته بالتاريخ العميق "(بارت : ص28) ، هذه الجدلية في كون الظهور والتشكل في المادة يمكن أن يتوحد فيها الرأي ، أو يختلف في طريقة الظهور للمدلولات الإبداعية على مر الفترات التي درسها (بارت) في مجاله الصفري للكتابة.
إنَّ إشكالية اللغة عند (بارت)تأتي في تصوراته الثلاثة التي يرسم من خلالها ملامح المرحلة التاريخية في ضوء نظرته للكتابة واللغة والتاريخ ، وتشكيل ظاهرة الأختلاف بين الكاتب والكتابة في برجوازيتها ، والموروثات الخاصة بها ، وهذه النظرة الاختلافية المتأتية بين دائرتي الرفض والقبول التي ولّدت الإشكالية التاريخية في منظوره ، ومن ثم هي قائمة على تصوراته الآتية :
• إن الوحدة الأيديولوجية للبرجوازية قد أنتجت كتابة وحيدة ، وأنه في الحقب البورجوازية (الكلاسيكية والرومانسية ) لم يكن ممكناً تمزيق الشكل ما دام الوعي غير ممزق .
• لكن منذ أن كف الكاتب عن أن يكون شاهداً على الكوني ليصير وعياً شقياً (حوالي سنة 1850) ، فإن أول ما فعله هو اختيار التزام لشكله ، إما باستمراره في الكتابة الموروثة عن ماضيه ،وإما برفضها .
• ومن ثم أن الإشكالية بين الرفض والقبول جعلت من الكاتب يقع بينهما ، ومن ثم أدى ذلك الى أن انفجرت الكتابة الكلاسيكية واصبح الأدب كله ، من (فلوبير) الى أيامنا ، إشكالية خاصة باللغة .(ينظر : بارت : ص29)


الكتابة


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع