مدونة الباحث/محمد محمد محمود إبراهيم


رَمضْان؛أرواحنا ظَمأى وفَوقَ أكفِّكَ الرَّيانُ(4)

باحث /محمد محمد محمود إبراهيم | MOHAMED MOHAMED MAHMOUD IBRAHIM


26/03/2023 القراءات: 233  


يقول الله تعالى :
﴿ يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون ﴾ .
قال ابن كثير عن هذه الآية :
يقول الله تعالى مخاطبا المؤمنين من هذه الأمة ، وآمرا لهم بالصيام وهو الإمساك عن الطعام ، والشراب ، والوقاع ، بنية خالصة لله عز وجل لما فيه من زكاة النفوس وطهارتها وتنقيتها من الأخلاط الرديئة والأخلاق الرذيلة وذكر أنه كما أوجبه عليهم فقد أوجبه على من كان قبلهم فلهم فيهم أسوة وليجتهد هؤلاء في أداء هذا الفرض أكمل مما فعله أولئك . ( انتهى كلامه رحمه الله ) .
قال بعض السلف: أهونُ الصيام: تركُ الطعام والشراب. وقال جابرٌ: إذا صُمت فليصم سمعُك وبصرُك ولسانُك عن الكذب والمحارم، ودع أذى الجار، وليكن عليك وقارٌ وسكينةٌ، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء.
إذا لم يكنْ في السَّمع مني تصاوُنٌ
وفي بصري غَضٌّ، وفي منطقي صمتُ
فحظِّي إذًا من صومي الجوعُ والظمأ
فإن قلتُ: إني صمتُ يومي فما صمتُ

وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «رُبَّ صائمٍ حظُّه من صيامه الجوع والعطشُ، ورب قائمٍ حظهُ من قيامه السهرُ» .
وسرُّ هذا: أن التقربَ إلى الله بتركِ المباحات ، لا يكمل إلا بعد التقرب إليه بترك المحرمات، فمن ارتكب المحرمات، ثم تقرب إلى الله بترك المباحات: كان بمثابة من يتركُ الفرائض، ويتقربُ بالنوافل.
وفي مسند أحمد: أن امرأتين صامتا في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكادتا أن تموتا من العطش، فذُكِرَ ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -،فأعرض عنهما، ثم ذكرتا له، فدعاهما، فأمرهما، أن تتقيئآ، فقاءتا ملء قدحٍ قيحًا، ودمًا وصديدًا، ولحمًا عبيطًا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن هاتين صامتا عمّا أحل الله لهما، وأفطرتا على ما حرَّمَ اللهُ عليهما، جلستْ إحداهُما إلى الأخرى، فجعلتا تأكلان لحوم الناس» .
وقولُه - صلى الله عليه وسلم -: «للصائم فرحتان: فرحةٌ عند فطره، وفرحة عند لقاء ربِّه» أمَّا فرحةُ الصائم عند فطره: فإن النفوس مجبولةٌ على الميل إلى ما يلائمُها، من مطعمٍ، ومشرب، ومنكحٍ، فإذا مُنعت من ذلك في وقت من الأوقات، ثم أُبِّيح لها في وقتٍ آخر، فرحت بإباحة ما مُنعت عنه، خصوصًا عند اشتداد الحاجة إليه.
فإن النفوس تفرح بذلك طبعًا، فإن كان ذلك محبوبًا لله، كان محبوبًا شرعًا، والصائمُ عند فطره كذلك، فكما أن الله حرَّم على الصائم تناوُل هذه الشهوات، في نهار الصيام، فقد أذن له فيها في ليل الصيام، بل أحبَّ منه المبادرة إلى تناولها، في أول الليل وآخره، بل أحبُّ عباده إليه أعجلُهُم فطرًا، لما في الصحيحين عن سهلٍ مرفوعًا: «لا يزالُ الناسُ بخيرٍ ما عجَّلوا الفطر» .
وللترمذي عن أبي هريرة مرفوعًا: «قال الله - عز وجل -: أحبُّ عبادي إليَّ أعجلهم فطرًا» وروى أحمد عن أبي ذرّ مرفوعًا:
«لا تزال أمتي بخير ما عجّلوا الفطر، وأخرُوا السّحور» .
وروى الحاكمُ، وابن عساكر عن ابن عمر، وأنسٍ مرفوعًا: «من فقه الرجل تعجيل فطره، وتأخيرُ سحوره، وتسحروا فإنَّه الغذاءُ المُباركُ، واللهُ وملائكتُه يُصلون على المتسحرين» .
فالصائمُ ترك شهواته لله بالنهار، تقرَّبا إليه وطاعةً له، ويبادرُ إليها في الليل تقرُّبًا إلى الله وطاعةً له، فما تركها إلا بأمر ربّه. ولا عاد إليها إلا بأمر ربّه، فهو مطيعٌ له في الحالتين، فإذا بادر الصائمُ إلى الفطر تقرُّبًا إلى مولاه، وأكل وشرب وحمد الله، فإنه يُرجى له المغفرةُ وبُلوُغُ الرّضوان بذلك.
وفي الحديث: «إن الله ليرضى عن العبد يأكلُ الأكلة فيحمدُه عليها، ويشربُ الشربة فيحمده عليها» ، وربما استجيب دعاؤه عند ذلك، كما في الحديث المرفوع: «إن للصائم عند فطره دعوةً لا تردُّ» .
ولأحمد والترمذي عن أبي هريرة مرفوعًا: «ثلاثةٌ لا ترد دعوتُهم: الصائمُ حتى يفطر ... الحديث» وعن ابن عمر مرفوعًا «لكلِّ عبدٍ صائمٍ دعوةٌ مستجابةٌ عند إفطاره، أعطيها في الدنيا، أو ادّخرت له في الآخرة» .
ورُوي عن أنسٍ وابن عباسٍ رضي الله عنهم: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أفطر قال: «اللهم لك صمتُ وعلى رزقك أفطرتُ، فتقبَّل منِّي إنك أنت السميع العليمُ»
ورُوي عن ابن عمر مرفوعًا: كان إذا أفطر قال: «ذهب الظَّمأ، وابتلَّت العروقُ، ووجب الأجرُ إن شاء الله تعالى» وروي عنه أنه كان إذا أفطر يقولُ: «اللهم يا واسع المغفرة، اغفر لي» .
وإن نوى بأكله وشُربه تقويةَ بدنه، على القيام والصيام، كان مُثابًا على ذلك، كما أنه إذا نوى بنومه في الليل والنهار، التقوِّي على العمل كان نومُه عبادةً. وفي حديثٌ مرفوعٌ: «نوم الصائم عبادةٌ، وصمتُه تسبيحٌ، وعملهُ مضاعفٌ، ودعاؤه مستجابٌ، وذنبهُ مغفورٌ» رواه البيهقي.
قال أبو العالية: الصائمُ في عبادةٍ ما لم يغتب أحدًا، وإن كان نامًا على فراشه، رواه عبدُ الرزاق.
فالصائم في ليله ونهاره في عبادةٍ، ويستجابُ دعاؤه في صيامه وعند فطره؛ فهو في نهاره صائمٌ صابرٌ، وفي ليله طاعمٌ شاكرٌ. وفي حديث رواه الترمذي وغيرهُ: «الطاعمُ الشاكرُ بمنزلةِ الصائم الصابر» ، ومن فهم هذا لم يتوقف في معنى: فرح الصائِم عند فطره. فإن فطرهُ على الوجه المشار إليه، من فضل الله ورحمته، فيدخل في قوله تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} ، ومن شرط ذلك: أن يكون فطره على حلالٍ، فإن كان فطره على حرام كان ممَّن صام عما أحلَّ الله، وأفطر على ما حرَّم اللهُ، ولم يستجب له دعاءٌ.
وأما فرحُهُ عند لقاء ربه: فبما يجدُهُ عند الله من ثواب الصيام مُدَّخرًا، فيجُده أحوج ما كان إليه. كما قال تعالى:
{وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا} .


رَمضْان؛أرواحنا ظَمأى وفَوقَ أكفِّكَ الرَّيانُ(4)


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع