مدونة الدكتور محمد محمود كالو


رحلة المنافع والذنب المغفور

الأستاذ الدكتور محمد محمود كالو | Prof. Dr. Mohamed KALOU


15/06/2023 القراءات: 229  


رحلة المنافع والذنب المغفور
تنطق الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية بأن الحج ركن من الأركان الخمسة التي بُني عليها الإسلام، وبأن كل مسلم ومسلمة عليه أن يحج إلى البيت الحرام مرة في عمره متى استطاع إلى ذلك سبيلاً، قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97].
فلماذا فرض الله تعالى الحج على المسلمين؟
دلَّت الآيات القرآنية على إيجاب الحج في أشهر معلومات، وأجمل بعض أحكامه، وأما كيفية أداء مناسكه، وتفاصيل أحكامه، وما يشترط لصحته؛ فقد هدى إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأقواله وأفعاله في حجة الوداع وهي الحجة الوحيدة التي حجّها مع المسلمين في السنة العاشرة من الهجرة، وقال للمسلمين حين كان يَرْمي جَمرةَ العَقَبةِ راكبًا راحلَتَه يومَ النَّحرِ: (لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ، فإنِّي لا أَدْرِي لَعَلِّي لا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتي هذِه) [رواه مسلم]، وهذا إشارةٌ إلى تَوديعِهم، وإعْلامِهم بقُربِ وَفاتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وحثَّهم على الِاعْتِناءِ بالأَخْذِ عنه، وانتِهازِ الفُرصةِ مِن مُلازَمتِه وتَعلُّمِ أُمورِ الدِّينِ؛ ولِهذا سُمِّيتْ حَجَّةَ الوَداعِ.
أما حكمة فرض الحج، وما الذي يجنيه المسلمون كل عام من احتمال كل هذه المشقات البدنية والمالية، فهي موضوعات لا تكثر الأسئلة عنها، مع أن الباري سبحانه لم يفرض فرضاً لمجرد هيكله الظاهري وصورته المادية، وإنما قصد الهيكل والروح والصورة والمعنى،
وهذه الفرائض ما هي إلا وسائل لمقاصد ومصالح، يجب على المسلمين أن يحققوها.
منها منافع ومصالح اجتماعية لشعوب المسلمين واجتماعهم، وما أجمل قوله سبحانه: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ. لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج:27-28] لأن المقصود من الحج وفود المسلمين من الرجال والنساء إلى مكان واحد حول الكعبة، أن يشهدوا ما فيه نفع لهم وخيرهم ومصلحتهم، وقد أطلق سبحانه (مَنَافِعَ لَهُمْ) ليدل على أن المقصود هو كل ما فيه نفع لهم في دينهم ودنياهم، سواء في العلم أو في التجارة، أو في السياسة، أو في الاقتصاد، أو في كل ناحية من نواحي النفع والإصلاح، ومن أظهرها وأهمها تقوية وحدتهم وأخوتهم، ووضع الخطط لتعاونهم وتناصرهم.
إذ سن الشرع الحكيم صلاة الجماعة في الصلوات الخمس في كل يوم؛ ليتعارف أهل المنطقة الواحدة، وفرض صلاة الجمعة في كل أسبوع ليتعارف أهل المناطق في البلد الواحد، وفرض الحج ليجتمع المسلمون من مختلف الأقطار مرة في كل عام حول بيت الله الحرام وفي مهد الإسلام ومهبط الوحي؛ ليتذكروا مبدأ أمرهم، وما سادت به دولتهم ودعوتهم، ويتدارسوا شئونهم، إذ الحج مؤتمر إسلامي عالمي سنوي ينعقد بدعوة إلهية عند بيت الله الحرام.
ولكننا للأسف والحزن يملأ القلب نشاهد ملايين المسلمين بمكة والمسجد الحرام يستقبلون قبلة واحدة، ويؤمُّهم إمام واحد، ويؤمنون بإله واحد، ولكن لا تفاهم بينهم ولا تعارف، ولا يتبادلون الحديث في أي شأن من الشئون الدينية أو الدنيوية، يخافون جواسيس الطغاة والظلمة، وكأنهم لا تجمعهم جامعة، ولا تربطهم أخوة، فقد أصبحوا أمة مشتتة وممزقة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ومنها منافع ومصالح فردية للحاج نفسه، إذ الحج طُهرة للحاج من ذنوبه وآثامه، يغسل نفسه، ويزيل ما ران على قلبه، ويجعله دائمًا في ذكر ربه عز وجل، وذلك أن الحكيم شرع كل نسك من مناسك الحج بمثابة طور من أطوار التطهير للنفس من ذنوبها وآثامها، حيث يتجرّد من ثيابه كما يتجرد الميت ويخلع الدنيا بما فيها ليقبل على ربه بثيابه البيضاء الذي يدل على الصفاء والنقاء، يلهج بلسانه: لبيك اللهم لبيك!
ويطوف بالكعبة المشرفة داعيًا مستغفرًا، مهللاً مكبرًا، مؤمنًا بأنه في أكرم مكان عند الله تعالى، ففيه تقبل التوبة وتغفر الذنوب والآثام، ويكرر دعاءه واستغفاره ساعياً بين الصفا والمروة، وإذا وقف بعرفات، حيث هنالك تفيض العين بالدمع، وينبض القلب بالتوبة، ويلهج اللسان بالاستغفار، ويخيل إلى الإنسان أنه نال رضا ربه، وخرج من ذنوبه، وانتصر على هواجس نفسه، ووساوس الشيطان، فيرمز لهذا الانتصار برمي الجمرات الثلاث، حتى إذا أتم الحاج مناسك حجه مرت نفسه بعدة أطوار تطهيرية، فينتهي الحج وقد غسل نفسه وطهر قلبه وألقى أوزاره وشعر أن الله قد عفا عنه وغفر له.
وأخيراً: كان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقول للحاج إذا قدم: (تقبل الله سعيك وأعظم أجرك، وأخلف نفقتك) [رواه سعيد بن منصور في سننه].
تقبل الله حج الحجاج وعمرتهم وسعيهم وجميع طاعاتهم وأعظم أجرهم وغفر ذنبهم وأخلف عليهم نفقتهم.


رحلة، المنافع، الذنب المغفور، الحج المبرور، مناسك، بيت الله


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع