مدونة الباحث/محمد محمد محمود إبراهيم


أيما أفضل للرجل أن يمكن أو يبتلى؟

باحث /محمد محمد محمود إبراهيم | MOHAMED MOHAMED MAHMOUD IBRAHIM


18/12/2022 القراءات: 435  


سئل الشافعي رحمه الله أيما أفضل للرجل أن يمكن أو يبتلى فقال لا يمكن حتى يبتلى والله تعالى ابتلى أولي العزم من الرسل فلما صبروا مكنهم .
فلا يظن أحد أنه يخلص من الألم البتة وإنما تفاوت أهل الآلام في العقول فأعقلهم من باع ألما مستمرا عظيما بألم منقطع يسير وأشقاهم من باع الألم المنقطع اليسير بالألم العظيم المستمر . فإن قيل كيف يختار العقل لهذا ؟ قيل الحامل له على هذا النقد والنسيئة والنفس موكلة بالعاجل ﴿ كلا بل تحبون العاجلة ﴾ أي الدنيا ﴿ وتذرون الآخرة ﴾ ﴿ إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا ﴾ وهذا يحصل لكل أحد فإن الإنسان مدني بالطبع لابد له أن يعيش مع الناس .
والناس لهم إرادات وتصورات فيطلبون منه أن يوافقهم عليها وإن لم يوافقهم آذوه وعذبوه ، وإن وافقهم حصل له الأذى والعذاب تارة منهم ، وتارة من غيرهم كمن عنده دين وتقي حل بين قوم فجار ظلمة ولا يتمكنون من فجورهم وظلمهم إلا بموافقته لهم وسكوته عنهم فإن وافقهم أو سكت عنهم سلم من شرهم في الابتداء ثم يسلطون عليه بالإهانة والأذى أضعاف

ما كان يخافه ابتداء لو أنكر عليهم وخالفهم وإن سلم منهم فلابد أن يهان ويعاقب علي يد غيرهم .
فالحزم كل الحزم في الأخذ بما قالت أم المؤمنين لمعاوية : من أرضي الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس ومن أرضي الناس بسخط الله لم يغنوا عنه شيئا .
ومن تأمل أحوال العالم رأي هذا كثيرا فيمن يعين الرؤساء علي أغراضهم الفاسدة وفيمن يعين أهل البدع علي بدعهم هربا من عقوبتهم فمن هداه الله وألهمه رشده ووقاه شر نفسه امتنع من الموافقة علي فعل المحرم وصبر علي عداوتهم ثم يكون له العاقبة في الدنيا والآخرة كما كانت للرسل وأتباعهم كالمهاجرين والأنصار ومن ابتلي من العلماء والعباد وصالحي الولاة والتجار وغيرهم ولما كان الألم لا محيص منه البتة عزي سبحانه من اختار الألم اليسير المنقطع علي الألم العظيم المستمر بقوله " من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت وهو السميع العليم » .
فضرب لمدة هذا الألم أجلا لابد أن يأتي وهو يوم لقائه فيلتذ العبد أعظم اللذة بما تحمل من الألم في الله ولله وأكد هذا العزاء والتسلية برجاء لقائه ليحمل العبد اشتياقه إلي لقاء ربه ووليه علي تحمل مشقة الألم العاجل بل ربما غيبة الشوق إلي لقائه عن شهود الألم والإحساس به ولهذا سأل النبي  ربه الشوق إلي لقائه فقال الدعاء الذي رواه أحمد وابن حبان :
( اللهم إني أسألك بعلمك الغيب وقدرتك علي الخلق أحيني إذا

كانت الحياة خيرا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة وأسألك نعيما لا ينفذ وأسألك قرة عين لا تنقطع وأسألك الرضا بعد القضاء وأسألك برد العيش بعد الموت وأسألك لذة النظر إلي وجهك وأسألك الشوق إلي لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين ) .
فالشوق يحمل المشتاق علي الجد في السير إلي محبوبه ويقرب عليه الطريق ويطوي له العبيد ويهون عليه الآلام والمشاق وهو من أعظم نعمة أنعم الله بها علي عبده ولكن لهذه النعمة أقوال وأفعال وأعمال هما السبب الذي تنال به والله سبحانه سميع لتلك الأقوال عليم بتلك الأفعال وهو عليم بمن يصلح لهذه النعمة كما قال تعالى " فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين » .
فإذا فاتت العبد نعمة من نعم ربه فليقرأ علي نفسه " أليس الله بأعلم بالشاكرين " ثم عزاهم تعالى بعزاء آخر وهو أن جهادهم فيه إنما هو لأنفسهم وثمرته عائدة عليهم وإنه غني عن العالمين ومصلحة هذا الجهاد ترجع إليهم لا إليه سبحانه ثم أخبر أنه يدخلهم بجهادهم وإيمانهم في زمرة الصالحين ثم أخبر عن حال الداخل في الإيمان بلا بصيرة وأنه إذا أوذي في الله جعل فتنة الناس له كعذاب الله .
وهي أذاهم له ونيلهم إياه بالمكروه والألم الذي لابد أن يناله الرسل وأتباعهم ممن خالفهم جعل ذلك الذي ناله منهم كعذاب الله الذي فر منه المؤمنون بالإيمان فالمؤمنون لكمال بصيرتهم فروا من ألم عذاب الله إلي الإيمان وتحملوا ما فيه من الألم الزائل المفارق عن قريب .

وهذا لضعف بصيرته فر من ألم عذاب أعداء الرسل إلي موافقتهم ومتابعتهم ففر من ألم عذاب الله فجعل ألم فتنة الناس في الفرار منه بمنزلة ألم عذاب الله وغبن كل الغبن إذ استجار من الرمضاء بالنار وفر من ألم ساعة إلي ألم الأبد وإذا نصر الله جنده وأولياءه قال إني معكم والله عليم بما انطوي عليه صدره من النفاق . والمقصود أن الله سبحانه اقتضت حكمته أنه لابد أن يمتحن النفوس ويبتليها فيظهر بالامتحان طيبها من خبيثها ومن يصلح لموالاته وكراماته ومن لا يصلح وليمحص النفوس التي تصلح له ويخلصها بكير الامتحان كالذهب لا يخلص ولا يصفو من غشه إلا بالامتحان إذ النفس في الأصل جاهلة ظالمة وقد حصل لها بالجهل والظلم من الخبث ما يحتاج خروجه إلي السبك والتصفية فإن خرج في هذه الدار وإلا ففي كير جهنم فإذا هذب العبد ونقي أذن له في دخول الجنة .
وقال إذا أصبح العبد وأمسي وليس همه إلا الله وحده يحمل الله سبحانه حوائجه كلها وحمل عنه كل ما أهمه ، وفرغ قلبه لمحبته ولسانه لذكره وجوارحه لطاعته وإن أصبح وأمسي والدنيا همه حمله الله همومها وغمومها وأنكادها ووكله إلي نفسه فشغل محبته بمحبة الخلق ولسانه عن ذكره بذكرهم وجوارحه عن طاعته بخدمتهم وأشغالهم .
فهو يكدح كدح الوحش في خدمة غيره كالكير ينفخ بطنه ويعصر أضلاعه في نفع غيره فكل من أعرض عن عبودية الله وطاعته ومحبته بلي بعبودية المخلوق ومحبته وخدمته قال تعالى " ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين » . أ .هـ .


أيما أفضل للرجل أن يمكن أو يبتلى؟


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع