مدونة د. محمد سلامة الغنيمي


الدين والعقيدة: أسس الرؤية الكونية وتجلياتها الحضارية

د. محمد سلامة غنيم | Dr. Mohammed Salama Ghonaim


04/03/2025 القراءات: 4  


الدين والعقيدة: أسس الرؤية الكونية وتجلياتها الحضارية

يُشكِّل الدين بوصفه نسيجًا قيميًّا متكاملًا، والعقيدة بوصفها الجوهر الروحي الثابت، الإطارَ المركزي الذي تُستمد منه رؤية الإنسان للوجود ومصيره، فتنبثق منها توجهاتُه الفكرية والسلوكية، وتتشكَّل على ضوئها مواقفُه الوجودية. ولما كان الإنسان - بفطرته - يَجعَلُ عقيدتَه سابقةً في الولاء على نوازع النفس وأهوائها، كانت سلامةُ المنظومة العقدية ضمانةً لاستقامة السلوك الفردي والجماعي، كما أن انحرافَها يُعدُّ مُنْعَطَفًا خطيرًا يهدد كِيَانَ الأمم ويُزهقُ الأرواحَ، ويُذرِي رايات الفتن بين الشعوب. فالتاريخُ الإنسانيُّ شاهدٌ على أن أغلبَ الحروب المدمرة والنزاعات الدامية كانت جذورُها متصلةً بفساد التصور العقدي أو سوء تأويل النص الديني.

وإذا أردنا تشخيصَ الداء؛ فإن من أبرز أسباب هذه المآلات الأليمة تسلُّطَ أدعياء الفقه على منابر الهداية، واغترارَ العامة بجهلةٍ يتخذون الدينَ مطيةً لأهوائهم، فكم تحت ظلال الجهلِ الديني سُفكت دماءٌ، وتدمرت حضاراتٌ، وشُوهت سمعةُ الأديان! وهنا تبرز المفارقةُ الجليّةُ بين رجل الدين الحقيقي الذي يحمل رسالةَ إصلاحٍ للعالمين، وبين مُدَّعِي العلم الذي يُهلك الحرثَ والنسلَ بجهله المركب، فموتُ الأمة بجهل الأول أشدُّ فداحةً من موت الأفراد بخطأ الثاني.

ومن هنا تتعاظم الحاجةُ إلى إعادة هندسة المنظومة التعليمية للعلوم الشرعية، عبر انتقاء النخبة المتميزة من طلبة العلم - جودةً في الفهم، وسموًّا في الخلق، وعمقًا في التفكير - لتخريج جيلٍ من العلماء الربانيين القادرين على حمل الرسالة بوعي وإتقان. كما يتوجب تجديدُ الخطاب الديني عبر مقارباتٍ عصريةٍ تستلهمُ روحَ النص القرآني والسنة النبوية، وتتفاعلُ مع مستجدات العصر دون الانزياح عن الثوابت، مع تفعيل آلياتِ النقد الذاتي ومراجعةِ التراث عبر فقه المقاصد ومراعاةِ السياقات التاريخية.

ولا بد أن تُكمِل هذه الجهودَ مبادراتٌ موازيةٌ؛ كتعزيز الحوار بين المذاهب والأديان، وترسيخ ثقافة التسامح عبر مناهج التعليم، وإشراك المؤسسات الإعلامية في نشر الفهم الوسطي للدين، مع تطوير برامجَ تدريبيةٍ لوعاظ المجتمع تُؤهلهم لفنون الحوار والإقناع، ومواجهة خطاب التطرف بمنهجية علمية تعيد للدين نقاءَه كمصدر للإلهام الحضاري لا للصراع. فالدينُ الحقُّ يُصلحُ ولا يُفسدُ، يبني ولا يهدم، يجمعُ ولا يفرقُ، وهذه سُنَّةُ الكون التي لا تتغير.


تربية، فكر، نهضة


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع