مدونة د. محمد سلامة الغنيمي


المدرسة.. مصنع للأوهام: من أين نبدأ الإصلاح؟

د. محمد سلامة غنيم | Dr. Mohammed Salama Ghonaim


28/08/2024 القراءات: 92  


بداية من تأسيس المدرسة الحديثة بالتزامن مع الثورة الصناعية في أوروبا، بدأ أصحاب المصانع هناك في البحث عن مؤسسات لإعداد العمال للمصانع، وكان ذلك أحد أهم الأسباب التي دعت لإنشاء المدارس ومن بداية القرن السادس عشر إلى الآن لا يزال الوعي التربوي العام السائد في عموم العالم وبلادنا العربية على الخصوص أسير الرؤية التقليدية السحرية إلى المدرسة بوصفها المكان الذي يتفتق بعطاء المعرفة، ويتضوع بأريج العلم، ويعبق بمعاني الحكمة، وينهض بأسرار الجمال، لدرجة إنّ شاعر النيل حافظ إبراهيم حين عمد إلى مدح الأم لم يجد صورة أبلغ دلالة في الوصف والاستعارة من اعتبار الأم مدرسة:
الأم مــدرسـة إذا أعــددتـهـــا
أعـددت شعبا طيب الأعــراق
وبالضرورة اتبعت الدول النامية الدول الأوربية وأنشأ المدارس، ورغم مرور أكثر من قرن على بداية التعليم النظامي الحديث في أمتنا، ورغم أنه حقق أقل نسبة في أمية القراءة والكتابة في التاريخ البشري، ومع ذلك لم يحقق المأمول في استعادة الأمة مكانتها الحضارية وريادتها العلمية، فما زالت أمتنا تئن من التخلف والاعتماد على غير أبنائها في ضرورياتها وحاجياتها فضلاً عن التكميليات.
ولا شك أننا نظامنا التعليمي أصبح هو الداء وهو الدواء، وكل محاولات إصلاحه صارت عديمة الجدوى؛ لأنه أصبح كالثوب الذي قد بلي وخلق واتسعت خروقه على راقعها، ولا مناص من بناء نظام تربوي يتخذ من أصولنا الإسلامية أسسا يبني عليها مستقبله من خلال نظاماً تربوياً بطراز عصري، مطلي بملاط الحضارة الإنسانية ومزخرف بمنجزاتها، أما الإبقاء على نظام مر عليه قرابة قرن من الزمان مع بعض الجهود الإصلاحية له، فهو ضد طبيعة الكون في التغيير والتجديد الذي لا يتوقف إلا بالموت والفناء.
إن التربية النهضوية هي التي تصرف جل جهودها في بناء نموذج قوي في أصوله راسخ في ثوابته، وما تبقي من جهد تصرفه في الترميم والتحصن.
ظهرت في النصف الثاني من القرن العشرين اتجاهات فلسفية متعددة تعمل على نقد النظم التعليمية وتطالب بمجتمع بلا مدارس، مثل؛ الأناركية والنقدية، وخصوصا بيير بورديو وإيفان إليتش وباولو فرير انطلاقا من أوجه النقد التي تم توجيهها إلى المدرسة، ورغم ما يؤخذ على هذه الاتجاهات من نقد، إلا أن لها وجاهتها العلمية، وقد قال جوستاف لوبون: يستطيع الفلاسفة، البرهنة على أن التعليم لا يجعل الإنسان لا أكثر أخلاقية ولا أكثر سعادة، وإنه لا يغير غرائزه وأهواءه الوراثية. وإذا ما طبق بشكل سيء فإنه يصبح ضار أكثر مما هو نافع. وقد أكد علماء الإحصاء على هذه الآراء عندما قالوا لنا بأن الجريمة تتزايد مع تعميم نوع معين من أنواع التعليم. وبرهنوا لنا أن أكبر أعداء المجتمع، أي الفوضويين، يجندون غالبا في صفوف الفائزين الأوائل في المدارس.أ.ه
المدارس غير الجيدة تحول طلابها إلى أعداء للمجتمع، كما أنها تقدم الكثير من المؤهلين لاعتناق الأفكار المتطرفة سواء الإرهابية أو الإلحادية، كما أنها تقدم خريجين ضعيفي البنيان الداخلي الذي سرعان ما يتهاوى أما الغرائز، فيرتكب العديد من الجرائم. أما المدارس الجيدة والمخطط لها فإنها تزود المتعلم بأنساق قيمية تضبط سلوكياته، وتمده بسياج من المبادئ التي توجه أفكاره وجهتها الصحيحة، كما تنمي مهاراته وقدراته المهنية والحياتية.
ويدرك الطالب في المدارس غير الجيدة أنه ما جيء به إليها إلا لاستذكار الكتب المدرسية وتعلم أكبر قدر من المعلومات واختزانها؛ لكي يحصل في النهاية ورقة (شهادة) تؤهله للحصول على وظيفة براتب جيد، والخطر الماحق هنا أن المتعلم يزدري وضعه الاجتماعي، فالفلاح يكره الفلاحة والفني يكره مهنته ... فيصبح لدى هؤلاء استعداد للتمرد على المجتمع إذا فشل في الحصول على وظيفة تضعه في وضع اجتماعي أعلى. وفي النهاية تجد هذه المدارس تخفق إخفاق شديد في تحضير طلابها لإعمار الأرض وإصلاحها من منطلق الأمانة التي كلف الله بها الإنسان واستخلفه بها على إدارة الأرض، بل على خلاف ذلك تخرج جيوش مكبوتة تعاني من صراعات داخلية عنيفة قد تنفجر في أي لحظة وتفسد في الأرض بدلا من أن تصلح.
نقد النظم التعليمية
سداسية نقد الأناركيين ( اللاسلطوية) التعليمة "اللامدرسيين" للمدرسة
1. التعليم الإلزامي:
يرى إيفان إليش بأن التعليم الإلزامي ما هو إلا مظهر من مظاهر الاعتداء على حريات الأفراد، إذ كيف يُجبر طفل على الجلوس في مكان واحد، كل يوم ولست ساعات متواصلة، يتخللها استراحة لبرهة وجيزة، وبعدها يتم العودة إلى مقاعد الدراسة!
2. التعليم القيم:
إنّ التعليم القيّم والحقيقي يتم فقط داخل أسوار المدرسة، من حيث هي الأداة التي تمنح المؤهل الذي يعترف بكفاءة الأفراد ويفتح الطريق أمامهم كي يحتلوا المناصب الاجتماعية المتاحة.
٣- المحافظ على قيم الاستهلاك:
يقوم نظام المدارس الحالي على مبادئ "الامتيازات الهرمية"، ذلك أنّ الذي يقضي زمنا أطول في المدارس ويحصل على شهاداتها يتبوأ مكانة أرقى في المجتمع "ابتدائي، ثانوي، كلية مجتمع، بكالوريس، ماجستير، دكتوراه…".
4- مبدأ التدجين:
لا تكتفي المدارس الحالية بتدجين الأطفال للاستجابة لقيم مجتمع الاستهلاك فحسب، بل تحاول جعل الإنسان مدمنا لهذه القيم، وغير قادر على نقدها،
"تمدرس الوجود":
بدلا من أن يكون الوجود ساحة فسيحة يتعرف فيها الإنسان على معاني الحب والصداقة والجمال والوفاء والمسؤولية، تحلّ المدرسة بدل الوجود في تعرّف الإنسان على هذه القيم، وهذا بدوره يحصر ويحددّ التجربة الإنسانية في مكان واحد، وتصور واحد، وتجربة واحدة.


تربية، فكر، نهضة، مدرسة


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع