مدونة الأستاذ الدكتور محمد محمود كالو
التفاوض فن الفوز (1) أ.د. محمد محمود كالو
الأستاذ الدكتور محمد محمود كالو | Prof. Dr. Mohamed KALOU
10/12/2023 القراءات: 485
التفاوض فن الفوز التفاوض علم وفن ومهارات وخبرات إنسانية تراكمية متجددة ومتطورة تمكن كل الأطراف المتفاوضة من تحقيق أكبر قدر ممكن من المصالح والمنافع في وقت واحد وبتراضي جميع الأطراف. فالتفاوض عملية متداخلة بين طرفين أو أكثر بهدف الوصول إلى أرضية مشتركة حول مسألة ما أو مسائل تتضمن مصالح مشتركة، أو خلافات، وتسعى الأطراف من خلالها للتوصل إلى اتفاق مقبول يتم احترامه من الأطراف المتفاوضة. والتفاوض هو المنقذ والحل الوحيد للوصول إلى حل سلمي للمشكلة أو القضية أو الصفقة المتنازع عليها، كما أن التفاوض يدعم دوام الاتصال والتواصل واستمرارية تبادل المصالح، وبدون التفاوض يخسر الطرفان معاً، بدليل قصة الأخوين اللذيْن تشاجرا على برتقالة، حيث اختلفا على تقسيم البرتقالة، لذلك قامت الأم بتقسيم البرتقالة إلى نصفين متساويين. فقام الأخ الأول بأكل ثمرة النصف الأول، وألقى بالقشرة في القمامة. وقام الأخ الثاني بحفظ القشرة ليستخدمها في صناعة الكعكة، بينما ألقى بنصف ثمرتها في القمامة حيث أنه لا يحب البرتقال ولا يحتاج لثمرته، ولو كان لديهما الاستعداد للتفاوض لانتفعا كل منهما بأفضل مما حصلا عليه، فقد خسرا جزءاً من (البرتقالة الكاملة) بدون تفاوض. مما يؤكد أن التفاوض ضرورة حتمية حيث إننا بشكل طبيعي ومتكرر في حالة حوار وتفاوض دائمين طوال اليوم، نتفاوض من أجل الحصول على وظيفة، ولزيادة المرتب، ونتفاوض مع الزوجة والأبناء حول المكان المناسب لقضاء الإجازة، ونتفاوض مع الزملاء والرؤساء والمرؤوسين ومع التجار والعملاء الشركاء ...إلخ، فحوالي 80% من أوقات الناس تستهلك في حوارات وتفاوضات متنوعة. نشأ علم التفاوض عبر التاريخ وأوردته النصوص التاريخية المختلفة، وتاريخنا الإسلامي زاخر بالشواهد القصصية، والأدلة القرآنية حول هذا الجانب كثيرة، فالتفاوض كأداة للحوار جوهر الرسالة الإسلامية، والأسلوب القرآني خير دليل على ذلك كأفضل أسلوب للإقناع، قال الله تعالى: {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125] ويمكن القول بأن جذور التفاوض الأولى وجدت مع وجود أبينا آدم عليه السلام، حيث شاء الباري سبحانه أن تبدأ حياته بابتلاء، حينما دخل في أول حوار تفاوضي مع الشيطان عندما وسوس له ولزوجته: {وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَٰذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ. وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف:20-21]، فكانت نتيجة هذه المفاوضة الخاسرة نزول آدم وحواء من الجنة إلى الأرض وما يحمل هذا النزول في طياته من ابتلاء. ومن أولى الوقائع البشرية التي تظهر التفاعل الاجتماعي بين الناس هي قصة ابنيْ آدم (قابيل وهابيل)، وفي هذه القصة تصوير لما في الحياة من صراع وتعارض في المصالح حتى بين الإخوة، ما يقتضي تخفيف حدته وإزالة أسبابه ولا يكون ذلك إلا عبر الحوار والتفاوض. والتفاوض علم حديث له أصول ومبادئ جرى تقنينها من الخبرات المتراكمة عبر العصور ابتداء من أول معاهدة سلام دولية أبرمت في التاريخ المتمثلة بـ (معاهدة قادش) بين الفراعنة والحيثيين عام 1258 قبل الميلاد، وما أعقبها من اهتمامات العلماء التي لا زالت تجري حتى يومنا هذا. ومن أشهر عمليات التفاوض في الإسلام تلك التي أفضت إلى صلح الحديبية بين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم والمسلمين من جهة، وبين قريش من جهة أخرى، حيث قادت المفاوضات التي جرت بين الطرفين في السنة السادسة للهجرة النبوية إلى التوافق على صلح يتضمن هدنة بين الطرفين مدتها عشر سنوات، ومن أبرز المفاوضين وقتها أمير المؤمنين عثمان بن عفان وسهيل بن عمرو وشهده جميع الصحابة. وكذلك التفاوض الذي جرى أمام النجاشي ملك الحبشة بين جعفر بن أبي طالب من جهة، وبين عبد االله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص من جهة أخرى لبقاء المسلمين في الحبشة. ومن المفاوضات في التاريخ الإسلامي أيضاً تلك التي جرت بين صلاح الدين الأيوبي، وريتشارد قلب الأسد، خلال الحملة الصليبية الثالثة على الشرق (1191-1192). والتفاوض تارة يعد فناً وموهبة، إذ قد يتفوق فيها بعض الأفراد باعتبارات شخصية أو لظروف موضوعية، وهذا ما دفع بعض الكتاب إلى القول: إن المفاوض الماهر يوَلَّد ولا يُصْنَع. وتارة أخرى يعد التفاوض مهنة لها نظمها وقواعدها، وهناك من عدَّه حِرفة يزاولها الفرد لمدة طويلة، مستنداً إلى الخبرة المتراكمة لديه. إن التحاور والتفاهم والتعاون والميل لتبني الحلول الوسط هو الأساس الذي يتركز عليه التفاوض المؤدي لفوز كلا الطرفين، فالتفاوض الناجح صفقة نتيجتها مكسب مقابل مكسب، لأن التفاوض يؤدي إلى نتائج أفضل لكلا الطرفين، لذا ألف فيليب روبنز الأستاذ في جامعة أكسفورد كتابه المشهور: (التفاوض فن الفوز). ويعد موضوع مهارات التفاوض من المواضيع المهمة جداً، والتي تسهم كثيراً في إتمام الجولات التفاوضية لصالح من يجيد استخدامها، وبناء هذه المهارات أمر في غاية الصعوبة لأنها تحتاج إلى وقت طويل وتدريب مستمر كي تصقل هذه المهارات من خلال التجارب والخبرات المتراكمة.
التفاوض، فن الفوز، مهارات، مصالح، الحوار، صلح الحديبية
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع
مواضيع لنفس المؤلف
مواضيع ذات صلة