مدونة بروفسور دكتور. وائل أحمد خليل صالح الكردي
التعذيب .. أو الحفر في ذاكرة الجسد
أ.د. وائل أحمد خليل صالح الكردي | Prof.Dr. Wail Ahmed Khalil Salih AlKordi
02/12/2019 القراءات: 2413
التعذيب وعمق الحفر في ذكرة الجسد ..
د. وائل أحمد خليل الكردي
(حيث ضحايا الصباح هم جلادو المساء) عبارة عميقة دلت على واقع الانسان في كل زمان ومكان كتبها (فاسيولنسي) في روايته (النسيان) .. هذه العبارة تدل على ان هناك مفردات حسية مثل (التعذيب ، العذاب ، الجلد ، النحر ، البتر .. الخ) دخلت إلى التكوين اللغوي لدي الانسان بصورة أساسية وجوهرية ، وبكون اللغة هي الحالة الاكثر تعبيرا عن الاجتماعية والكيان الاجتماعي فقد باتت بذلك تلك المفردات مظهرا لازماً للتعبير عن جانب كبير من حقيقة النسيج الاجتماعي، وحيث أن الملاحظ بوضوح هو القاعدة المشتركة لدلالات هذه المفردات وهي موطن تحقيقها ومستحاثات بيانها الذي هو الجسد .. فالجسد بكونه هو الكائن الطبيعي الملموس وموضع الاحتكاك بالأجسام الاخرى الحية أو غير الحية هو ما يقع عليه العبء الاكبر في احساس الانسان بوجوده الفعلي واستغلال الاخرين لهذا الاحساس لديه ، فان كان اشد ما يؤثر في الجسد هو التعذيب بأنواعه فإن هذا يكشف في نفس الوقت عن احساس الانسان بذاته عبر هذا النوع من التفاعل الاجتماعي مع مستخدمي مادة التعذيب عليه ، هنا تبرز الحقيقة الاجتماعية بأقوى اشكالها .. وإن كان (ارسطوطاليس) قد افترض أن حد القياس الكوني ومن ثم الادراك والتفاعل المعرفي مع الكون هو الحد الاوسط الذي يجمع بين الصورة والمادة فيما يكون الطرف الأعلى صورة محضة فلا تدرك والطرف الأدنى مادة محضة فلا تدرك ، فان الجسد يكون بذلك هو مقام التفاعل الاجتماعي بكونه الحد الاوسط بين الروح والنفس فحمل في طيه كليهما فلا نعرف اثارهما إلا من خلاله .. ولذلك كل مقولات التعذيب وافعاله انما تقع على الجسد في المرتبة الأولى وعلى ذلك صنعت كل آلات التعذيب وبحسب اعضاء الجسد، فالألم الواقع على الجسد إنما يقع على الحالة الكلية له وعلى ما يحمله من عناصر روحانية ونفسانية بدليل أن من تقوى عنده عناصر الروح والنفس بدرجة عالية تقل عنده مخاوفه من الآلام في جسده بفعل التعذيب والجلد والحرق ثم يحتملها ويتجاوزها .. لقد ذكر أحد اتباع الفلسفة الوجودية الشاطحين ان الوعد بحياة النعيم في الجنة وحياة العذاب في النار ليست أمراً متصوراً على الحقيقة فقال أن من يتعذب بالنيران مرحوم اكثر ممن يتنعم بالجنان، ذلك أن الإنسان جُبل على النجدين فيختار بإرادته الحرة لنفسه بين الخير والشر فكيف سيحتمل أن يكون مجبراً على اتجاه وقرار واحد لا خيار له فيه فإما الخير وإما الخير ايضاً فإن هذا بمثابة الحبس الانفرادي في السجن وجحيم نفسي قاس .. بينما ذلك الذي تحرق بدنه النيران فهو عن احواله وافكاره وبواطنه تلهى ، فإننا نرى أن أشد الناس حزناً ولوعة تروح عنه احزانه وينشغل عنها ولو لبضع ثوانٍ إذا لسعته عقرب أو لدغه ثعبان أو مست جلده حرارة حادة ، فذلك مثل من هو ذاك في النيران ، ويبدو أن هذا الوجودي يقيس على الحال في الدنيا واسقط من عقله أن الانسان محكوم بفلك الابعاد الزمانية المكانية لموقعه الكوني فاذا انتقل إلى موقع اخر تختلف فيه الشروط الزمانية المكانية فانه يعاد صياغته فيها من جديد ، فما باله بما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر .. ولكن الشاهد من هذا أن الجسد يظل محوراً للتفاعل الاجتماعي لبني الإنسان فنبرة الصوت وتعبيرات الوجه والأيدي تدل على نوع التفاعل فيما بين الناس وبعضهم اكثر من مجرد النطق والكتابة .. وبقدر عمق الحفر على الجسد يكون احساس الانسان بجسده وبذاته ، والتعذيب هو أعمق وأشد الحفر .. فلكأنما سيرة تاريخ الانسانية في علاماتها البارزة سلسلة من العذاب لا تنمحي صوره في الذاكرة ما دامت آثاره على الجسد .
التعذيب ، الجسد
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع