مدونة يحيى أحمد المرهبي


عقلي ليس للبيع ولا متحفا للعرض

يحيى أحمد المرهبي | Yahya ahmed almerhbi


24/02/2021 القراءات: 1958  


عقلي ليس للبيع وليس متحفا للعرض

عندما وضع الشيخ البشير الإبراهيمي - رحمه الله - قاعدته في التحرير، كان يدرك أهمية تحرير العقول، وأن عبودية الأجسام تأتي تبعا لعبودية العقول، فقال: "إن تحرير العقول أساس لتحرير الأبدان، وأصل له، ومحال أن يتحرر بدن يحمل عقلا عبدا".

وهناك من يعتقد أن العقول الحرة الأصيلة هي دائما تلك التي أكثرت من القراءة، دون أن يدرك هؤلاء أن العقول القارئة، إن لم تحررها القراءة، وتوسع مداركها، فهي قيود عبودية جديدة، تكبل العقل والجسد. إن النصر الحقيقي الذي افتتحت به الحضارة الإسلامية انطلاقتها، كان على مستوى العقول؛ بتحريكها وتشغيلها، وفك إسارها من أغلال الخرافة والوهم والتقليد، كما كان على مستوى النفوس؛ بتحريرها من حب الدنيا، ومن الطموحات الصغيرة.

وكم يتعجب المرء كثيرا عندما يرى أناسا يدخلون في حوارات كثيرة، ومع ذلك لا يصلون -غالبا- إلى قواسم مشتركة، وإن وصلوا إلى ذلك، فلا توجد لديهم قناعات لتطبيقها وتحويلها إلى أمر واقع، وتبحث عن الأسباب فتجد أن من بين هذه الأسباب أنه من الصعب تغيير قناعات أشخاص، لا يملكون إدارتها أو حرية التصرف فيها، فهم فقط يتلقون وينفذون ماقيل لهم من أفكار خاطئة، أو أوامر غير صائبة، وإن حاولت إقناعهم ضاعت جهودك سدى، ولم يستجيبوا لك.

ولن تدرك مكمن الخلل عندهم إلا في آخر الأمر، وهو أن هؤلاء الذين تحاورهم -لتصل معهم إلى قواسم مشتركة- "مرمّزون" بكلمة سر، وكلمة السر هذه (الباسوورد) لا يعرفها إلا من يتحكم بهم. لقد باع هؤلاء عقولهم وسلموها ليتصرف بها غيرهم كيف شاء. كم من مرة التقينا بأصحاب عقول مجدبة، مشحونة بالأقوال والأفكار المتضاربة والمعلومات المتناثرة والمتضاربة، كما التقينا بأصحاب عقول ثرية تملك المقولات المرتبطة بالسنن وطبائع الأشياء، كما تملك الملاحظات الذكية على الظواهر العامة.

والسؤال الذي يُلح علينا ويحتاج إلى إجابة هو: متى نصل إلى ساحة الأخذ بالفكر الحر الذي يصدر عن قناعات الإنسان ولا يخضع لثقافة التابع والقطيع؟
وهل أنا إلا من غزية إن غوت
غويت وإن ترشد غزية أرشد.
ومتى نصل إلى قناعة أن تربية الجيل على الفكر الحر هو ضمان للمستقبل الآمن؟ الجيل الذي يتحمل كل فرد فيه مسؤوليته، دون أن يكون أسيرا لهذا الاتجاه أو ذاك، عندها يمكن أن يطلق على هذا الشخص مسمى "الإنسان الحر" لا التابع، هذا الإنسان عقله معه وتحت تصرفه وليس معروضا للبيع.

إننا بحاجة إلى أن نشجع الناشئة على دحر الشر والزيف والفساد قبل أن تتفاقم المشكلات، ونجد بالتالي الطريق نحو العودة مسدودا، إن السكوت عن المنكر هو في الحقيقة نوع من الترويج له، والدفع به إلى الأمام، وإن الأفكار حين تدور في العقول، ولا تستطيع أن تجد لها منفذا، ولا طريقا إلى الآخرين، إما أن تذبل وتتلاشى، وإما أن تصبح زاخرة بالعوج والتعصب. وصدق من قال: "إن الزيف يغتصب الحقيقة، ولكن الصمت يغتالها".

إن أحرار العقول يعشقون المقارنة، لأنه ثبت أنها تكسر حدة التعصب، وأنها تزيل عن العقول الكثير من الأوهام، كما تزيل عن الأعين الكثير من الغشاوات. وكم من مثقفين يدعون استقلالية عقولهم، ولكنهم على طرفي نقيض في التعرف بمشاكل مجتمعاتهم، فتجد منهم من لا هم له إلا تحذير الناس من الهلاك الوشيك الذي سيحيق بهم، وبالمقابل هناك مثقفون آخرون على النقيض، ينشرون البشائر بالنصر القريب الباهر. إن أمثال هؤلاء المثقفين لا يستحقون هذا اللقب، لأنهم لايقفون موقفا موضوعيا من مشكلات مجتمعاتهم، بل ينحازون إلى هذا الطرف أو ذاك، في تبسيطية مخلة، وهم في الغالب من أصحاب (العقول المستريحة)، لا من أصحاب العقول الحرة.

أتمنى أن نتقدم بالحوار لا على أساس أن أجذبك أوتجذبني، ولكن على أساس أن نأخذ بأيدي بعضنا بعضا، لنخرج من المصيبة التي تعمُّنا جميعا إن كنا من أصحاب العقول الحرة، فالمصائب -كما قيل- يجمعن المصابينا.

ويمكنني أن أختم مقالي هذا بعدد من الخلاصات المركزة، من خلال النقاط التالية:

1- هناك ثوابت في حياة الإنسان الفكرية والعقلية لا تتغير جذريا بل تتطور وتتوسع وتزداد تفصيلا، كلما ارتقى وعي الإنسان، وتوسع اطلاعه وتعمقت نظرته لما حوله، ويمكن أن نطلق على هذه الأفكار (الحقائق الرئيسية)، التي على ضوئها يفسر علاقته بالإله والكون والحياة، ومن الصعوبة تغييرها إلا في أندر الحالات عند الانتقال من دين إلى دين أو من أيديولوجية إلى أيديولوجية أو من مذهب إلى آخر.

2- لا يمكن الجزم بأن الإنسان نتاج أفكاره الخالصة، بل قد يكون العكس هو الأكثر حضورا، فالإنسان في الغالب تشكله الأفكار المحيطة به، ويكون تأثره به واضحا وبينا، وهذا ما لايختلف عليه اثنان.

3- يبدأ الإنسان مشواره الفكري وتكوينه العقلي معتمدا على الآخرين، وخلال هذه المرحلة يبقى متلقيا في الغالب إلا من بعض الرؤى الاستقلالية التي تقل وتكثر من شخص لآخر، وعندما يصل الإنسان إلى مرحلة معينة (تختلف من شخص لآخر)، يبدأ بعض النابهين في غربلة حصيلته من الأفكار، فيقبل منها ويرفض ويقدم ويؤخر، في عملية تتوقف على حالة التوهج العقلي عنده، وطبيعة المدخلات التي يغذي بها عقله، وهناك من يحتفظ بما حصله من الأفكار خلال رحلته العمرية، ويحاول عدم الاقتراب منها لا تفنيدا ولا تطويرا، بل تتحول لديه كمية الأفكار التي جمعها على مدى عمره إلى (موميات محنطة)، يحاول الاحتفاظ بها وصيانتها، والبحث عن أماكن صالحة لاستمرارها، فيصبح عقله عندئذ شبيها بالمتحف الذي يحتوي على القطع النادرة وأحيانا الشاذة، وتقتصر وظيفته مع هذه الحصيلة على العرض والحفظ والصيانة، وقد تكشف له الأيام أن هذا المتحف الذي يحمله في رأسه، هو عبارة عن مستودع لقطع قد تكون رائعة الجمال ولكنها ليست ملكا له، وقد تكون قطعا مشوهة وأحيانا ضارة، ولكن طول إلفه لها جعله لا يفرط فيها مهما كان تأثيرها السيء عليه.

4- التطور الذي يجعل الإنسان يعيد النظر في منظومته الفكرية وقناعاته العميقة هو التطور الإيجابي، ولا يعني هذا أن نسير في الاتجاه الذي يقول


العقل، توليد الأفكار، أصالة الفمر


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع