الغرائز ومعارف المخلوقات الأولية ودلالتها على الخالق العليم (١)
أحمد حسن إسماعيل العدوي | Ahmad Hasan Ismil Adawy
05/09/2021 القراءات: 743 الملف المرفق
الحمد لله الذي خلق فسوى، وأعطى كل شيءٍ خَلقَهُ ثُم هدى، وخلق الزوجين الذكر والأنثى، وعليه النشأة الأخرى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ، وخاتمُ أنبيائه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد: حين تحاط الأجيال بمناهج تزعم أن الإنسان ومن شاركه الحياة على الأرض من كائنات حيَّة قد أوجدتهم الطبيعة، وأن الإنسان وأشجار الصنوبر والقرود أحفاد خلية بكتيرية، طورتها الطبيعة تدريجيًا عبر بلايين السنين، منكرين خلق الله لها، ناسِبين ذلك إلى العلم! متجاهلين –من حيث المبدأ- أن الطبيعة غيرُ مُدركة، وأن قوانينها تفتقر إلى من وضعها، عندها يحتاج الإنسان إلى وقفة هادئة مع نفسه، يقرر ذلك بنفسه، أو يوجهه غيره، وسيُدرِكُ حين يُقلَّب بصره في الكائنات مِن حوله أنها أُوجِدت في أتقنِ صورةٍ، وأحسنِ نظام، وسيرى طوائفَ المخلوقات وأصنافَها يتمايز بعضُها عن البعض، ويتكيّفُ بعضها مع البعض، فلكل صنفٍ منها طعامُه، وعملُه، وأسلوبُ حياته الخاص، ولكل منها سلاحه لاتقاءِ أعدائه، وردٍّ عدوانهم، والنجاةِ بنفسِه وبصغارِه. فأما حياتُها: فمنها ما يعيش في الماء ومنها ما يعيش خارجه، وقد وُجِد في كلٍّ نوعٍ منها أجهزةُ التنفس، والغوصِ أو الطيرانِ التي تُلائمُ وظيفته ومعيشته، حتى إن المتأمل ليدرك دون عناءٍ أن هذا وُجد ليعيش في البرِّ، وهذا للبحرِ، وهذا ليطير في السماء، فلا يَلحظ اضطرابًا في تكوين شيءٍ منها. وأما غذاؤها: فلكل نوع من الكائنات طعامُه الخاص، فآكلات العشب لا تأكل اللحوم، والعكس صحيح، وآكلات الحشرات لا ترتشف رحيق الأزهار، ولا تأكل الثمرات، وتعرف كلُّ دابة –صغُرت أو كبُرت- أين يكمُنُ غذاؤها، وأين تعيشُ فريستُها، وكيف يمكن اصطيادُها، وكيف تستخدم قدراتها في التربصِ والانقضاضِ. وأما عن وظائفها: فيقوم كل كائن بوظيفته في الحياة، سواء عرفها الإنسانُ، أو لم يعرفها، وسواءٌ أنتفَعَ بها أم لم ينتفع، فالنحلة تبني وتُكَوِّنُ الخلية، ثم تسعي لتمتص الرحيق، لتعود إلى الخلية التي تنتظم فيها الأعمال وتتوزع المهام، والنملة تبني مدينتها، وتحتفظ فيها بحبوبها، ويحُطُّ طائرُ النورس على فكِّ تمساحٍ في بحيرةٍ، فيُنقب بين ثناياه عن طعامٍ فاض عن حاجتِهِ فآذاه، فأكل هذا، واستراح ذاك، والعجيب أن ( تشارلز دارون)( ) _نفسه_ قد تعجب من ذلك النظام والإتقان وتلك الغرائز، التي تقوم بها حيواناتٌ بشكلٍ لا يستطيعُ الإنسان القيام بهِ إلا بمزيد من التجربة والمرانة، فقال: ’’ إن في كثير من الغرائزِ ما يبعَثُ على العجب، حتى إن نشوءها وتطورها قد يكون من الصعوبة بحيث يدفع القارئَ إلى رفض نظريتي جملة... إذا ما سُقنا الكلام –مثلاً- في أن الغريزة قد تضطر طائر الوقواق [Cuekoo] إلى الهجرة، وأنها تُلزِمُهُ أن يضعَ بيضَهُ في أعشاشِ غيرِهِ من الطير، على أن فعلًا أو عملًا ما، نحتاجُ نحنُ إلى بعض المرانةِ حتى نستطيع القيام به، إن أتى به حيوان – سيَّما إذا كان نشأَ وليدًا من غيرِ مرانة ‘‘( )، ولكن دارون عاد وهرب إلى أنه لا يريد بحث أصل تلك الغرائز، وإنما يهدف فقط إلى الإشارة إلى تنوعها. فلو أننا سألنا أنفسنا هنا: لماذا تخرج الفراخ لتأكل نفس الغذاء، وتؤدي نفس الوظيفة، وتحيا بنفس الطريقة؟ ولماذا لا ينتج النحل شرابًا غير العسل؟ ولماذا لا تنتخب الطبيعة كائنًا آخرَ ليقوم بهذا العمل؟ هذا كلُّه إذا تجاوزنا الكلام عن إبداعِ خلقِ تلك الكائنات، واختلافِ أشكالها وألوانها والأجهزة الداخلية في أجسامها، لكن الذي أريد هنا أن أصل إليه هو: أن تلك الكائنات تخرج إلى الحياة بقدر من المعلومات فيه أهمُّ أسسِ الحياة، ومهارات البقاء فيها، حتى إننا لنرى الثدييات –مثلًا- تلِد أجنتَها فلا تَمُرُّ الدقائقُ حتى يلتقم الوليد ثدي أمه، وتبدأ دورتَهُ في الحياة، ولقد رأيت بعيني ما أظنه أعجب من هذا: اقتنيتُ ثلاثةُ أفرادٍ من الأرنب (ذكرًا وأُنثَيين) كانت إحداهما بيضاءَ والأخرى سوداءَ، والذَّكرُ أسود، فوَلَدت السوداءُ صغارًا سودًا، وولَدت البيضاء ثلاثةً بيضًا وثلاثةً سوداً، فكانت البيضاءُ تأخذ القماش وتربطُ به صغارها السود، وتترك البِيض؛ مخافةَ أن يختلطوا بأبناء جارتها، فتُدخلهم في حفرة صنعتها وسترتها بأعواد البرسيم، لا تُخرجهم إلا للرضاعة، فإمّا أن الأرانب تتعلم هذا من التجارب أو التقليد (معرفة مكتسبة) ، وإما أنها ولدت بهذه المعرفة (معرفة فطرية)، والاحتمال الأول باطل؛ لأنها ولِدت عندي ولم تخالط غيرها لتتعلم منه، ولا يبقى إلا أنها المعرفة الفطرية وهداية الله لها، لتحقق الحكمة التي خلقها الله من أجلها، فسبحان من خلقها وعلمها. ورَحِمَ الله شوقي( ) حيث قال: ’’سَل النملَ مَنْ أَدقَّها خَلقًا، وملأَها خُلقًا، وسَلَكَها طُرُقًا، تبتغي رِزقًا؟ وسَلِ النحلَ: مَنْ ألبَسَها الحِبَرَ( ) وقَلَّدَها الإبَرَ، وأطعَمها صَفوَ الزهر، وسخَّرها طاهيةً للبشرِ؟ لقد نبذتَ الذلولَ المُسعفة( )، وأخذتَ في معامي( ) الفلسفة، على عشواءَ من الضلالِ مُعسِفة( )...فخَبِّرني: الطبيعةُ مَن طَبَعَها؟ والنُّظُمُ المُتقادمةُ من وَضَعها؟ والحياةُ الصانِعةُ مَن صَنَعها؟ والحركةُ الدَّافعةُ مَن دَفَعَها؟( ).
وهذا القدر من المعلومات هو ما يمكن أن نُطلق عليه: "الهداية" أو "الفطرة" _كما أشرتُ_ وهو عند المسلمين من أثبت اليقين، لأنهم – مع ما أنعم الله عليهم به من القدرة على النظر والتفكر كعامة الناس_ قد جاءهم الخبر الصادق ببيان هذا السر، وهو أن الله -سبحانه- وهو الخلّاق العليم، قد منح تلك المخلوقاتِ الوجودَ، وجَعَل لوجودِها حكمةً وغايةً، وهداها سُبُلَها، وعرفها وظائفَها وغذائها، وطبيعة حياتها، وتكيفها مع غيرها، ودفاعها عن حياتها وأوكارها وصغارها…
… يتبع
#الخلق #الغرائز #الفطرة #الإيمان #الإلحاد
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع
مواضيع لنفس المؤلف