مدونة د. رمضان محمد رمضان الأحمر
الاحتفال بالمولد النّبَوي الشريف في مصر خلال العصر الفاطمي
د. رمضان محمد رمضان الأحمر | Dr. RAMDAN M RAMDAN ALAHMAR
05/10/2020 القراءات: 1842 الملف المرفق
كان الاحتفال بذكرى مولد النّبي (صلى الله عليه وسلم) -في اليوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول من كل عامٍ هجري- بِدْعَة في نظر المتمسكين بالعادات الإسلامية؛ لأنه لم يَرِدُ في الكتاب والسنة ولم يُحْتَفل به في صدر الإسلام. إلاَّ أنّ أهل الصّلاح والورع من المسلمين رأوا فيما بعد بلا بَأْسَ من الاحتفال بمولده (عليه السلام)، تكريماً له وإحياءً لِذِكْرَاه العطرة ومحافظةً على تُرَاثِهِ المجيد. لذلك بدأ الاحتفال به بالانتشار في العالم الإسلامي منذ حوالي سنة 300هـ/912م، في حين أنّ هناك من يرى بأنّ أوّل من أقام هذا الاحتفال هم الفاطميون في مصر في القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي.
وقد جعل الفاطميّون منه احتفالاً ذا صِبْغَة رسمية؛ إذ كانت تُقِيمُهُ الدولة بتشجيع من الخليفة الفاطمي نفسه، كما حرصوا على أنْ يكون الاحتفال به يتفق وما له من أهمية دينية. فكان إذا حَلَّ موعده يُخْرَجُ من الخزينة مبلغٌ كبيرٌ لأجل الصّدقات، وتُخْرَج من دار الفطرة أربعون صينية فطرة، ومن الخزائن سكر ولوز وعسل وزيت برسم خُدَّام المشاهد الشريفة، التي بها -حسب قولهم- بعض أعضاء آل البيت، ويُوَزّع من الحلوى مئات الأرطال ومن الخبز الشيء الكثير.
فإذا كان اليوم الثاني عشر من ربيع الأول تَقَدّم بأنْ يُعْمَل في دار الفطرة عشرون قنطاراً من السكر حلوى يابسة على أشكالٍ طريفة، تُعَبّأ في ثلاثمائة صينية من النحاس، كي تُوَزّع على كبار الموظفين كقاضي القضاة وداعي الدُّعَاة، بالإضافة إلى قُرّاء الحضرة والخطباء وموظفي المساجد ورؤساء المشاهد، وغيرهم ممن جرت الرسوم بتوزيع هذه المِنَح عليهم.
أمّا الاحتفال الرسمي فكان يبدأ بعد صلاة الظهر من اليوم نفسه، حيث يخرج قاضي القضاة في موكب الاحتفال بصحبته الشهود، وكذلك المُكَلّفُون بحملِ صواني الحلوى، فَيَتّجِهُ الجميع إلى الجامع الأزهر وهناك يجلسون حَتّى تُقْرَأ خاتمة القرآن الكريم، ثم يعود الموكب إلى القصر وقد احتشد الناس على جانبي الطريق لمشاهدته، وكذلك حول منظرة القصر للتطَلّع إلى الخليفة، في حين يحاول صاحب الباب -بمساعدة والي القاهرة- منع الزحام وإخلاء الطريق أمام موكب قاضي القضاة، وتكون المسالك المؤدية إلى القصر قد نُظِّفَت ورُشَّت بالماء وغُطِّيَت بالرمل الأصفر استعداداً لِمَسِيرهِ. وعندما يصل إلى القصر يقوم صاحب الباب باستدعاء قاضي القضاة ومن معه، فَيَتَرَجّل الجميع عند اقترابهم من المنظرة وينتظرون تحتها وهم مُتَشَوّقون لرؤية الخليفة. وبعد حوالي ساعة تُفْتَح إحدى طاقات المنظرة ويظهر منها وجه الخليفة وعلى رأسه المنديل الخلافي، ومن حوله عدد من الأُستاذين المحنّكين وغيرهم من الخواص، ومن طاقة أخرى يَطل رأس أحد الأستاذين ويشير بيده إلى الجمهور قائلاً: "أمير المؤمنين يرد عليكم السّلام".
بعدها يُسْتَفْتَح قُرّاء الحضرة القراءة ويكونون وُقُوفَاً وَوُجُوهُهُم للحاضرين وظهورهم لحائط المنظرة. ويتقدم خطيب الجامع الأنور فيخطب خطبة لا تختلف عن الخطب المألوفة في بدايتها إلى أنْ يصل إلى ذكر النبي (صلى الله عليه وسلم)، فيذكر للحاضرين بأنّ هذا يوم مولده إلى ما مَنَّ الله به على مِلّة الإسلام من رسالته، ويختم كلامه بالدعاء للخليفة. ثم يتلوه خطيب جامع الأزهر وخطيب جامع الأقمر - والقُرّاء لا يزالون يقرؤون- فإذا ما انتهت خُطَب الخُطَبَاء أخرج الأستاذ رأسه من جديد من الطاقة وأشار بيده إلى القاضي وجماعته بسلام الخليفة عليهم كما تَقَدّم، فَتُغْلَق الطاقتان وينتهي الاحتفال وينفض الناس عائدين .
وإلى جانب الاحتفال الرسمي هذا كان الشعب يحتفل في كل مكان بإقامة المآدب الخاصة في ليلة المولد وفي مساء يوم المولد، وتُصْبِحُ القاهرة في الليل تَسطع بالأنوار الباهرة، وتَغُصُّ السّاحات والدُّرُوب بالجماهير المحتشدة، وتكثر النّفقة والنُّزْهَة في هذا اليوم، وفيه تُقام أنواع الملاهي والمطاعم العامة، وتسير السّفن في النيل والخليج مُحَمّلة بالمُتَنَزّهين، ويكثر البِرّ بالفقراء والمساكين وغيرهم .
مستل من:
الأحمر، رمضان محمد رمضان: الحياة الاجتماعية في مصر في عصر الدولة الفاطمية (358-567هـ/969-1171م)، القاهرة، شركة القدس للنشر والتوزيع، ط1، 2012م، ص269-272.
الفاطميون، مولد النبي (صلى الله عليه وسلم)، الخليفة، جامع الأزهر.
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع