قصة قصيرة بعنوان " سُلُوّ " من المجموعة القصصية "عنيدة كالشمس"
أ.د بلقيس أحمد الكبسي | Prof.Dr. Belqes Ahmed ALkebsi
22/11/2021 القراءات: 3570 الملف المرفق
تقف أمام ذاكرتها وجهاً لوجه، تغرز نظراتها في أحداق نسيان مستبد استعداداً للمواجهة، أطلت على ذاتها عبر مرآة كاشفة، تأملت أحداثاً متتالية كشريطٍ سينمائي باهت، تأوهت في ملامحها الملبدة بالفقدِ، فهطلت مآقيها الحزينة وهي تتهجى تفاصيلها المنسية محاولة جمع شتات ذكرياتها المتناثرة عبر سني قحطٍ شققت روحها ظمأً. لم تتذكره. ملامحه غامضة يحفها ضباب نسيان كثيف، لكنها تذكرت حدثاً حافلاً بالفرحة والحزن بالسعادة والتعاسة، وتذكرت يوماً استثنائياً وكأنه البارحة، وأنها صنعت كعكة وغرستْ في وجهها بضع شموع، وأعدتْ حلوى وعصائر متنوعة، علقت زينة مضيئة وبالونات سابحة، تذكرت ضجة وتحضيرات جمة، لكنها لا تتذكر لمن كل هذه التحضيرات المعدة بعناية؟! في بهو يحتضن وجعها تراودها خيالات تتراءى لها ظهوراً وأفولاً، حدقت في الأفق، فقبلتها أشعة شمس تحزم أمتعتها عازمة على الرحيل، كان المشهد باهتاً؛ لكنه ذكرها بأن ثمة حدث ما كانت تنتظره بعد المغيب. لا شيء يذكرها به، سوى مشاهد تغتال نسيانها وتضج في ذاكرتها : أصوات مبهمة، صخب حافل ، طاولة يطوقها محتفلون مجهولون يلحون على طيف ما كي يطفئ الشموع ، عدٌّ تنازلي كنبضات متثاقلة ، تصفيقات كقطرات مطر ، قهقهات ماكرة، حلوى وشراب ،أطباق وكؤوس ، أغاني عيد الميلاد ، شموع تتقد كجمر في حدقتيها ،أفواه تلتهم كعكتها ، وأعين شرسة تبتلعُ فرحتها ، وساعة حائطية لا يعنيها كل هذا الصخب ، تقتات دقائقها لتسد رمقها. تغمض عينيها وتفتحهما مراراً، تحكم قبضتيها على رأسها المتفشي صداعاً، تحدق ؛علَّ المشهد يتضح والصورة تكتمل ، ينهكها التحديق في البهو الشاسع بلا جدوى ؛ فتغفو ذاكرتها من فيض الإعياء ، وتغرق في غيبوبة نعاس رفيق هروباً من فشل الاستعادة . أيُّ استعادة؟ لا شيء تستعيده إثر حالة الاكتئاب التي ألمت بها فأفقدتها مسار حياتها برمتها ، لم تعد تتذكر تفاصيلها ولا تتذكره، ولا تتذكر كيف وصلت إلى هذه الحالة وهذا المكان ؟ ولا ما الذي أودى بها إلى غياهب الفقدان؟ لقد كانت مفعمة بالحيوية والنشاط، وكانت تتقد كشمعة عيد الميلاد التي اشتعلت؛ فأطفأت ذاكرتها . لا تعرف لماذا مشاهد عيد الميلاد تراود ذاكرتها المتعبة؟ لماذا تنهكها وتمارس العنف عليها؟ كلما حدقت في الأفق تراءت لها محاولة إحياء ذاكرتها من وأد جاحد ، تتكرر مشاهد عيد الميلاد في الظهور : جموع تنفضُ مغادرة ، مولية ظهرها لبقايا مبعثرة ، أطباق وكؤوس متناثرة ، فوضى عارمة ، عيون منهكة ، أذرع متعبة ، وصوت مجهول يعارك صوتها ، شجار ما لا تفهم سببه ، مشهد يتردد صداه في أذنيها كضجيج: - عليك بتنظيف وترتيب هذه الفوضى، سآوي إلى فراشي أنا متعب ولا أستطع مقاومة الإعياء. -أنا أيضاً متعبة لكن يجب ألاَّ نترك المكان غارقاً في الفوضى، عليك أن تساعدني في تنظيفه وترتيبه. فجأة بترت شرايين الكهرباء، فعمت العتمة وقطعت ظلمة داكنة حبائل الشجار؛ محاولة البحث عن بصيص ضوء يبدد السواد الحالك، طيف غامض يتحسس ما حوله، متفادياً الارتطام بما يصادفه ، حظ عاثر يعرقل خطواته المترقبة فيرتطم بالطاولة و يهوى أرضاً ساحبا معه غطائها بما يحتويه من الكؤوس والأطباق التي أصدرت صوتاً مفزعاً. على الرغم من طغيان الظلمة الحالكة إلا أن المشهد بدا لها أكثر وضوحاً، لترى نفسها وهي تهرع لمساعدته ، لكنها تعثرت بما صادفها من حطام. صرخت وهي ملقاة على الأرض تتألم من التواء قدمها، زحف نحوها متحسساً جيبه ، أخرج قداحته ، ضغط عليها مراراً لكنها أبت ، بعد محاولات عدة وجهدٍ مضنٍ منحته بصيص ضوء ، تلمس الركام المبعثر حوله ، بحث عن إحدى شموع عيد الميلاد ، وجد إحداها ، أدناها من الشعلة الباهتة فاشتعلت وشرع في البحث عن أخرى علها تنير المكان المزروع بحطام زجاج مبعثر في تفشي عتمة حالكة إلا من بصيص باهت يتخبط فيه خيال ما. بدت لها الستائر كأشباح معلقة ، و تراءى لها طيف صغير مرمي على الأريكة ، ما إن سمع ضوضاء البحث عن الشموع حتى نهض متهادياً ، رأى نور شمعتين باهتتين تتراقصان أمام عينيه ، أسرع نحوهما وأمطرهما زفرات فانطفأت إحداها وظلت الأخرى صامدة ، لحظة عزم على إطفائها دوت صفعة مباغتة احبطت كل محاولته ، وزلزلت أركان قلبه ووجنته. تردد صدى من فرطه أوشك أن يصك مسامعها: - لماذا أطفأتها.. غبي..أحمق... حدقت ملياً علها تتبين ملامحه، لكن تكرار محاولاتها باءت بالفشل، سقطت مغشية ليتلقفها سبات رفيق، لكن طيفه ظل يلاحقها، ليأتيها في منامها على شكل حلم أشبه بالحقيقة. ستيقظت محمومة تهذي بينما أنياب مسعورة تعض ذاكرتها وهي تصارعها وتقاومها بجسارة محاولة افشال كل شراسة الإعطاب التي تريد أن تنال منها، معركتها حاسمة، فإما أن تنتصر أو أن تتكبد هزيمتها النسيان للأبد. استنجدت بطيفه ليمنحها الثبات، وهي تقاوم معركة ضارية وحاسمة ضد الانزلاق في منحدر التيه، تشبثت بطيفه المتدلي على حافةِ النسيان؛ فبعثته ذاكرتها بكامل هيئته، وتجلت ملامحه التي ظلت تغافلها لسنوات عجاف. بدا لها منكسراً متألماً وحائراً من صفعة لم يعِ سببها، سائلاً حيرته ألم أتلقَ حفاوة وتصفيقاً على اطفائي لحزمة شموع لماذا عندما أطفأت شمعة واحدة تلقيتُ صفعة؟! تسمر وكلمات عتاب تغمغم بها شفتيه مثقلة بالبكاء. تراجعت خطواته واهنة ، طوى ألمه واتخذ سبيله إلى عزلته يرافقه حزن يسفح ملء عينيه ، التحف كآبة المكان وفي طريق مغادرته التقط إحدى الشموع الملقاة ، أشعلها لتستبين قدماه الطريق ألى سريره ، انزوى على حافته ، تشبث بوسادة بللتها دموعه ألماً وحيرة ، ارتعشت أطرافه ، قوسهما ، احتضنهما كما احتضن حيرته وألمه ، وغفا باكياً في سرير تتقد عليه شمعة تدمع كتمساح ، ظلت تحترق بلهب ضئيل ، ما إن أسدلت حدقتاه ستارهما الأخير ، حتى هب سعيرها ملء جسده ، ابتلعته كأفعى ، ولم تبق أي أثر لصفعة وجنته.
قصة، قصيرة/ سُلُوّ/ مجموعة قصصية/ عنيدة/ كالشمس
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع