مدونة ا.م.د. شيماء رشيد محمد زنكنة
طبيعة الخلاف النحوي لدى القدماء
أ.د. شيماء رشيد محمد زنكنة | Prof. Dr. Shaima Rashid Mohamed Zangana
09/10/2020 القراءات: 3427
طبيعةُ الخلافِ النحوي لدى القدماء الحديث عن الخلاف النحوي حديث عن النحوِّ كلِّه ، إذ لا يكاد يخلو باب من أبواب النحو منه، فهو حديث عن الأصول والقواعد والأسس التي انطلق منها النحويون في بناء النحو، وهو حديث عن فكرٍ، لا مجرَّد جدلٍ، وردِّ حجةٍ بأخرى. لا يخفى على أحدٍ الأسبابَ التي أدَّت إلى الخلاف النحوي وتشعبها بين النحويين إلى أنْ وصلت إلى حد التعصب للمذهب النحوي، وإنْ كان النحوي يعرف أنَّ الرأيَ غيرُ صائبٍ؛ لذا كان لهذا الأمر الأثرُ الكبيرُ في توسيع الخلاف النحوي وتشعبه، وسأذكر بإيجاز طبيعة الخلاف النحوي بين النحويين وأسبابه: من أُوائل الأمور التي أدَّت إلى نشوء الخلاف النحوي طبيعة المادة اللغوية التي اعتمد عليها النحويون القدماء؛ ذلك أنَّ الرقعةَ الجغرافيةَ التي تقطنها قبائل تكلمت بالعربية كانت بالغةَ الاتساع، مختلفةَ اللهجات، متأثرةً بالأممِ المحيطةِ بها؛ لذلك اختلف النحويون واللغويون في تحديد اللهجة الفصيحة، والقبائل التي سيجمعون منها المادة اللغوية التي اعتمدوها أساس التقعيد، مَّما أدَّى إلى اضطرابٍ كبيرٍ في التمييز بين المستويات اللغوية التي كان لها أثرٌ كبيرٌ في ظهور الخلاف النحوي بين النحويين، وكان العاملُ الزمني في الاحتجاج سبباً من أسباب الخلافِ أيضاَ، وذلك عن طريق التطور اللغوي الذي هو من طبيعة اللغات؛ ذلك أنَّ تباين اللهجات في ظاهرةٍ معينةٍ عن غيرها جاء نتيجة هذا التطور، وهذا ما سبَّب اختلاف النحويين في عددٍ من الصيغ والألفاظ، فضلاً عن الأسباب السياسية والجغرافية (التعصب البيئي)، والتعصب المذهبي النحوي إذ كانت العصبية لرئيس المذهب النحوي أو أحد شيوخه سبباً من أسباب الخلاف بين النحويين، وقد يكون التعصب إلى المذهب الديني أثراً في ذلك الخلاف. ومن اللافت للنظر أنَّ الخلاف ظهر أوَّل أمره يسيراً قائماً على مخالفة السابق للاحق من العلماء والطلَّاب؛ لاعتمادهم على الاجتهاد، وبعد ذلك ظهر الخلاف المذهبي بعد نشوء المذهب الكوفي وتوسع الخلاف بين النحويين نتيجة التعصب المذهبي وتمسك الطالب بآراء شيخه. هذه هي الأسباب العامَّة بإيجاز، فضلا عن الأمور والأسباب الأخرى التي لم نتعرض لها كلَّها لوجودها في مظانها، التي أدَّت إلى نشوء الخلاف النحوي، ومن أسباب الخلاف النحوي التي تعنينا في هذه الأطروحة ما نشأ من اختلاف في فهم النصّ القرآني؛ لاختلافهم في إدراك معانيه وأسرار تراكيبه، وكان لتفاوت النحويين في فهم معنى النصِّ القرآني ومقاصده من جانب، ولاصطدام النحويون بالنصِّ القرآني الذي جاء في كثير من الأحيان مخالفاً لقواعدهم التي وضعوها في ضوء آرائهم في العامل واختصاص الحروف بالأفعال، وعدُّوه الأساس الذي اعتمدوا عليه في التقعيد من جانب آخر، الأثر في نشأةِ خلافٍ كبيرٍ بينهم في تفسيرِ دلالةِ النصِّ القرآني، أو تأويلِهِ لينسجمَ وأصولِهِم وأحكامِهِم. ولا شكَّ في أنَّ للمعنى أثراً كبيراً في الخلاف النحوي؛ وذلك لاختلافهم في فهم النصوص والنصِّ القرآني خاصَّة، وتفسيرِها وإدراك معانيها، وطرائق تركيبها؛ "لأنَّ اختلافَهُم في فهمِ النصوص يقودُ إلى اختلافِ الآراء في الأحكامِ، وتعليلِ الظواهرَ، وتأويلِ النصوصِ؛ ذلك أنَّ كثيراً من مسائلَ الخلافِ نشأ بسببِ اختلافِ النحاة في تقديرِ الوظيفة النحوية للتركيب، أو الأداة فأكثروا الجدال في مسائل معنوية" كثيرة. من هنا كان فهم النصّ القرآني مبعثاً للخلاف النحوي بين النحويين والمفسرين، فاستند عددٌ كبيرٌ من النحويين إلى النصوص القرآنية؛ لتقوية حججهم وتعضيدها، متفقين مع ما جاء في القرآن الكريم من نصوص تُسْتَنْبَطُ منها أصولٌ وأحكامٌ جديدةٌ على النحو العربي الذي كان بعيداً عنها، وما كان للنحويين أنْ يعرفوها لولا النصُّ القرآني وأسلوبُهُ ونحوه الذي تختلف أسسه عن عدد من الأسس التي اعتمد عليها النحويون في بناء نحوهم، فاهتمَّ النحويون القدماء في خلافاتهم التي بنوها على النصّ القرآني، ولبيان ذلك نورد عدداً من المسائل الخلافية التي بناها النحويون على النصِّ القرآني، وإنَّ هذه المسائل سيتكرَّر ذكرها في الفصول اللاحقة؛ وهو تكرار مقصود؛ لتنوَّع الغايات من إيراده، ففي كلِّ موضع تذكر فيه مسألة من المسائل؛ لغاية ولغرض معيَّن يختلف الغرض عنه في الموضع الآخر الذي تتكرَّر فيه المسألة الواحدة، من ذلك: خلافهم في جواز تقديم خبر ليس عليها بناء على قوله تعالى: ( ألا يوم يأتيهم ليس مصروفًا عنهم) [هود:٨]. إذ جوَّز البصريون تقديم خبر ليس (مصروفا) عليها لجواز تقديم معموله وهو: (يوم يأتيهم) عليه، وتقديم المعمول يؤذن بجواز تقديم العامل عندهم. في حين منع الكوفيُّون المسألة. فمنشأ المسألة الخلافية النظر في النصِّ القرآني الذي كان تطبيقهم قواعد العامل عليه أساس الخلاف بين النحويين. فورودُ نصوصٍ قرآنيةٍ خلافَ أصولِهِم وقواعدِهِم كان سببَ عددٍ آخر من المسائل الخلافية من ذلك قوله تعالى: ( إنَّ الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى) (لمائدة:٦٩). في هذا النصُّ أثيرت مسألة جواز العطف على اسم إنَّ بالرفع قبل تمام الخبر، إذ جوَّز الكوفيون المسألة بناء على هذا النصّ القرآني الكريم. إذ عطف قوله: (والصابئون) على موضع (إنَّ) قبل تمام الخبر وهو قوله: (فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) . في حين منع البصريون جواز العطف على موضع (إنَّ) بالرفع قبل تمام الخبر. ممَّا تقدم أجدُ أنَّ طبيعةَ الخلاف النحوي لم تكن في جلِّ مسائله خلافاً مذهبياً أو سياسياً أو طائفياً، أو غير ذلك من أسباب الخلاف النحوي، وإنَّما كان لفهم النصّ القرآني الحظ الأوفر في نشوء الخلاف النحوي بين علماء العربية قديماً، فالنصّ القرآني كان في كثير من الأحيان هو الأساس الذي بُنِيَ عليه الخلاف، فالخلاف في جزءٍ كبير منه نشأ على النصّ القرآني الذي يعدُّ أفصحُ نصٍّ في العربية على الإطلاق باتفاق الجميع.
الخلاف، النحوي، القدماء
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع