جعفر جمعة زبون علي آل جعفر


الرّواية بين التّحولات الفكرية والعولمية

جعفر جمعة زبون علي آل جعفر | Dr. jaafer jumaa ziboon ali


13/07/2020 القراءات: 2804  



الرّواية بين التّحولات الفكرية والعولمية
د. جعفر جمعة زبون علي البهادلي
تنطلق العولمة في الأدب من طروحات المقاربة بوسائلها المتداولة الآن كافة، من حيث سهولة وتلاقح الأفكار وإيصالها وتقبل الآخر لنتاجات أدبية قد لا تكون مرتبطة بالضّرورة بجذور واضحة ومعروفة عند المتلقي البعيد عن منشأها من جهة الفكر والمعنى. فأصبح من ذلك العمل الأدبي المعروض ممتلكاً لمساحة أوسع مما كان وارداً سابقاً، بفعل الأدوات التي أتيحت للقراء وإمكانية تقريب المسافات كنتاج لمسعى المراكز في محو الحدود وإلغاء فوارق استقبال وتقبل معنى المنتج الأدبي "إنَّ العالم لم يعد مسكنا لكيانات مجتمعية مفصولة ومعزولة عن بعضها البعض وإن العالم صار مترابطاً بصورة عضوية.. بحيث إنَّ ما يحدث في أي بقعة فيه يؤثر في جميع بقاعه الأخرى مهما تباعدت المسافات أو تنافرت الثّقافات" . فالأديب امتلك غطاءً قوامه الإندماج الكلّي في خط شروع فهم متسع للنّتاجات المتنوعة من مختلف الأقطار. فباتت الوسائل التّقنية وبسبب تميزها في جهات دون سواها، تؤمن ذيوع مسلك أو اتجاه إسلوبي يرافقه زخم إعلامي يكون الغرض من ورائه تأمين القبول عند الآخر، وإنْ تحقق بدرجات متفاوتة عند قرائه المختلفين من حيث الانتماءات الإبتدائية. وإنَّ مفهوم الإنصهار الثّقافي لا يشترط، أو يسعى لجعل المتلقي على قدم المساواة مع المرسل لتلك الأعمال الفنية، لتذويب مفهوم المستويات الذّوقية وتعادل درجات التّقبل، ليؤمن بذلك وصول تأثير التّيار أو الحركة الأدبية إلى أوسع مدى ممكن تحقيقه "ومع ما بعد الحداثة محو الحدود بين الثّقافة العليا والثّقافة الدّنيا. .. تؤدي إلى اختلاط الامور لدرجة يصعب معها الفصل بين الأدب الرّفيع وانماط السّوق. أي الدّخول إلى عملية تهجين ثقافي لا يبقى هنالك شيء اسمه ثقافة أصيلة" . فالأدب في العولمة لا يتم إطلاقه من خلال القفز على الثّقافات الرّافضة، بل يتم من خلال جعل الفهم العام متقارباً، أو في أقل تقدير فهم طروحات الآخر حتى مع الاحتفاظ بأصل ثقافي يعرف عن جذور حضارة أو تجمع بذاته. بما يجعل ذلك إمكانية موازاة الاتجاهين (الأصيل والوارد حديثاً) مع بعض بمسعى دمجهما في النّهاية، والاشتغال أدبياً وفق طروحات المستقدم وتزينها بحلة محلية واضحة.
وهذا ما نلمحه واضحاً في قصة وسيناريو فلم (بابل) للكاتب (غييرمو أرياغا) مكون من ثلاث قصص درامية متكاملة تدور أحداثها في المغرب، اليابان، المكسيك والولايات المتحدة. إذ تجري أحداثه في الصّحراء المغربية، عندما يقرر أخوان طفلان يرعيان قطيع الماشية المملوك لعائلتهما، أن يختبرا بندقياتهم، ولكن تذهب أحد الطّلقات بعيداً جداً، وتتغير حياة خمسة مجموعات من النّاس في ثلاث قارات مختلفة. تشمل المجموعات زوجين أمريكيين (براد بيت، كيت بلانشيت) إذ تصاب الزّوجة بالطّلقة وهم في الحافلة السّياحية، ومراهقة يابانية صماء ووالدها إذ إنَّ البندقية كانت ملكاً للياباني، ومربية أطفال مكسيكية برفقة طفلين أمريكيين عبرت بهم الحدود وهذان الطّفلان هما ابنا الزّوجين الأمريكيين والمربية أرادت فقط حضور زفاف في العائلة لكن ذلك كلفها الكثير.
إنَّ ما يميز العولمة ليس فقط قدرة الصّهر الثّقافي وإرسال الخطاب المؤدلج ليكون في صميم تجربة الجهة المستقبلة، وإنَّما من خلال إحلال مفاهيم أعم تمثل قاعدة لأجل إنجاح خاصية الاستقبال. فالتّركيز بداية يكون على مفاهيم التّقبل والاستعداد الإبتدائي لتداول الوافد الجديد، حتى يتسنى لأساليب الأدب العالمية من أنْ تغزو المحاور البعيدة عن مراكز الإنتاج العام. وإنَّ مفهوم الأدب في ذاته لم يعد حكراً على مواقع مكانية بعينها، وإنما كان للتّقدم التّقني دورٌ في جعل النّتاج الأدبي من المقتنيات الشّخصية، أسوة بفن الرّسم وكذلك الخزف أو النّحت أو الأشرطة والأقراص المدمجة الموسيقية، مع وضع ذوبان الحدود وتبلور ظاهرة التّهجين كمعاضد لذلك المسعى ومكمل لطرائق عولمة المنجز الفني بشكل عام، والأدبي بشكل خاص وبعد أنْ انتشرت ثقافة الاقتناء وأصبحت البيوت بمثابة المكتبات الصّغيرة لجمع المقتنيات الأدبية، غير أنَّ الانتقالة الأهم هي التي أحدثتها التّقنية العالمية اليوم، إذ تم تأسيس أمكنة افتراضية جديدة، استطاعت أنْ تحقق انتشاراً كبيراً وعظيماً في الوقت ذاته، لما لها من القدرة على تجاوز خاصية المكان والزّمان واللّغة وغير ذلك. فيلاحظ من ذلك أنَّ سعي العولمة بطريقتين هما: الأول في إذابة حدود وفواصل الكيانات المتنوعة للأدب، لينتج من ذلك البديل المتسع مساحة، مقارنة بماضي الأدب؛ والثّاني إذابة فواصل الذّوق العام ومقاربتها أو توحيدها إنْ أمكن، ومن ثمَّ تكون المحصلة عتبة تلاقح أدبي بين مرسل ومستقبل تؤمن هيمنة المرسل المستند على أدوات العولمة وقدرات المراكز ذات الجذب الأعلى.


جعفر جمعة الزبون


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع