وعند الله يومئذ يجتمع الخصوم (٢)
د. جميل مثنى الحبري | Jameel Alhipary
18/03/2022 القراءات: 6072
"ألا كُلكمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ؛ فَالْإِمَامُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَهُوَ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِه،ِ وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى أَهْلِ بَيْتِ زَوْجِهَا وَوَلَدِهِ وَهِيَ مَسْؤولَةٌ عَنْهُمْ، وَعَبْدُ الرَّجُلِ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْؤولٌ عَنْهُ؛ أَلَا فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ"، متفق عليه، من حديث عبد الله بن عمر. لذلك فإنّ صور الظلم متعددة ومتنوعة؛ فقد يظلم الأب ابنه؛ بالتقصير في حقوقه المذكورة سلفًا، وقد يظلمُ الولد والديه بعدمِ البِّر والإحسان إليهما، وقد يظلم القريب أقاربه، بعدم تفقّدهم وصِلتهم، وكذلك منها حرمانُ الأب لبناته من التعليم والوِرث، وعدم تزويجهنَّ بمَن يرغَبنَ، والمغالاة في مهورهن، ونحو ذلك. وقد يظلم الجار جيرانه؛ إما بإيذائهم بالإزعاج أو برمي المخلّفات بجانبهم، أو بعدم حفظ لسانه ونظره عن كل ما ينال منهم، أو يخوض في أعراضهم، ولله درُّ عنترة في قوله: (وَأَغَضُّ طَرفي ما بَدَت لي جارَتي *** حَتّى يُواري جارَتي مَأواها). وقد يظلم الراعي رعيته، كعاقل الحارة، أو مدير قسم، أو مدير ناحية مثلًا، في التقصير في ما أُوكِل إليهم من مهامٍ ومسؤوليات، سواء بتوفير الخدمات، أم بحفظ الأمن، أم بمراعاة حقوق الناس ومتطلباتهم.
ولعِظَم هذا الأمر عند المولى القدير- جلَّ في عُلاه- يتولَّى هو بنفسه يومئذٍ، الحكمَ وفضَّ النزاعات بين المتخاصمين؛ فمن أسمائه: (الحقُّ- العدلُ)، ومن صفاته: (المنصفُ- الحكيمُ- الخبيرُ-...). وقد ورد في الذِّكر الحكيم، في هذا الصدد، في تسعة مواضع، منها قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (الجاثية: 17). وبالرغم من أن معظم تلك الآيات قد وردت في سياقٍ توحيدي عَقَديٍ خاص، وتحديدًا ببني إسرائيل وتكذيبهم النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فإنَّ بعضها جاءت في سياقاتٍ عامة بين المسلمين والكافرين، أو بين الأنبياء وأممهم، كما في تفسير (فتح القدير) للشوكاني لقوله تعالى: {وَمَا اختلفتم فِيهِ مِن شَيءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى الله} (الشورى: 10): "هذا عامّ في كلِّ ما اختلف فيه العباد من أمر الدِّين، فإنّ حكمه، ومرجعه إلى الله يحكم فيه يوم القيامة بحكمه، ويفصل خصومة المختصمين فيه، وعند ذلك يظهر المُحقّ من المُبطل، ويتميزُ فريقُ الجنّة وفريقُ النار". بالإضافة إلى أنّ سياق تلك الآياتِ قد يدلّ على الخاصّ ويُراد به العام، كما تنبّه لذلك بعض المفسِّرين، كالشعراوي في تفسيره للآية السابقة الواردة أيضًا في سورة يونس: {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93)}: "والآية تُفيد العموم في القضاء ماضيًا وحاضرًا ومستقبلًا بين كل مؤمنٍ وكافر، وبين كل تائبٍ وعاصٍ". وكذلك السعدي في تفسيره لقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُم بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} (النمل: 78): "إن الله سيفصلُ بين المختلفين بحكمه العدل وقضائه القسط، فالأمورُ وإنْ حصل فيها اشتباهٌ في الدنيا بين المختلفين لخفاء الدليل، أو لبعض المقاصد، فإنه سيُبيّن فيها الحقَّ المطابق للواقع حين يحكم الله فيها". ومن ذلك ما ذهب إليه محمد طنطاوي في (التفسير الوسيط للقرآن العظيم) لقوله تعالى: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (يونس: 19)، بأن "اقتضت حكمتُه عدمَ تعجيل العقوبة في الدنيا، وأن يجعلَ الآخرةَ هي دارُ الجزاء والعقاب والثواب"، وما أقرَّه الشوكاني في تفسيره لقوله تعالى: {أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (الزمر: 46)، بأن "تُجازي المحسنَ بإحسانه، وتُعاقبَ المسيء بإساءته"، بل وتوعُّد المولى تعالى يومئذٍ هؤلاء المنكرين الظالمين، حين يُدركون ذلك، ولكن "لاتَ ساعةَ مندم": {وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ الله مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (48)}(الزمر).
ومما ورد في السنّة المطهَّرة في هذا الشأن، في مسند أحمد، قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ: "لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَتَّى يُقْتَصَّ لِلشَّاةِ الْجَمَّاءِ مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ نَطَحَتْهَا"، وما رواه أحمد في مسنده، والطبراني في (المعجم الكبير)، قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من حديث عُقْبَةَ بْنِ عَامِر: "أَوَّلُ خَصْمَيْنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ جَارَانِ" (حَدِيثٌ حَسَنٌ). وكذلك الحديث المتفق عليه المروي عن أم المؤمنين أُمِّ سَلَمَةَ، أَنَّ رَسُولَ الله قَالَ: "إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَأَقْضِىَ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ مِنْهُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ فَلاَ يَأْخُذَنَّ مِنْهُ شَيْئاً، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ ". وروى الترمذي في سننه، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: "لَمَّا نَزَلَتْ {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} قَالَ الزُّبَيْرُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَتُكَرَّرُ عَلَيْنَا الخُصُومَةُ بَعْدَ الَّذِي كَانَ بَيْنَنَا فِي الدُّنْيَا ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ: إِنَّ الأَمْرَ إِذًا لَشَدِيدٌ". (حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ). وخرَّج السيوطيُّ في كتابيه: (جامع الأحاديث)
يجتمع الخصوم عند الله.
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع
وكذلك نعتذر عن التأخر في نشر ما تبقى من هذا المقال، بسبب الخلل الفني في مدونتي، وقد تم معالجته بحمد الله وتوفيقه، وتعاون الإخوة القائمين على الموقع. جزاهم الله خيراً. ومازال للمقال بقية.