نحو فلسفة للعلوم التي صاحبت العصر الرقمي
دكتور وائل أحمد عبدالله | Dr. wael ahmed abdalla
25/09/2020 القراءات: 3943
ثمة تأثير كبير للعلوم الرقمية وتقنياتها على جوانب الثقافة الإنسانية، تلك العلوم التي لا تزال تبحث عن شرعية الاعتراف بها كعلوم في الأوساط الفكرية والفلسفية، ففي سبيل مواكبة العصر والتأقلم مع معطياته التقنية، يجب علينا جميعًا السعي نحو فهم عقلي فلسفي للعلوم التي أوجدها وطورها العصر الرقمي، ذلك الفهم الذي يبحث في أسس ومناهج وأخلاقيات ونتائج هذه العلوم الرقمية.
إنَّ الهدف من هذا المقال هو الإشارة إلى ضرورة العمل على دراسة العلوم الرقمية دراسة فلسفية معيارية، وبما أنَّ العلوم الرقمية تعبر عن روح العصر، حيث جاءت مصاحبة للتقدم العلمي والتكنولوجي الكبير؛ فإنه من الضروري البحث في أسس هذه العلوم ومناهجها وأخلاقياتها ونتائجها، بما يكفل لنا الاستفادة من هذه العلوم، وجني أكبر قدر ممكن من ثمار نواتج الرقمية، دن التفريط في قيمنا العربية الأساسية العليا، ودون الخوض في المحتوى المعرفي لهذه العلوم.
المقصود بالعلوم الرقمية:
إنَّ ما أقصده بالعلوم الرقمية هو تلك العلوم الجديدة التي ظهرت نتيجة لاستخدامات الحاسوب المتعددة وتطبيقاته التكنولوجية الهائلة، وكذلك العلوم التي كانت موجودة قبل ظهور الرقمية، لكنها استفادة من الرقمية واستخدمت أدواتها في تطوير ذاتها، وظهرت في شكل رقمي تفاعلي؛ ومن هذه العلوم على سبيل المثال وليس الحصر: علوم المعلومات Information Sciences، وعلوم البيانات Data sciences، والإنسانيات الرقمية Digital Humanities، واللغويات المعلوماتية Informatics Linguistics، والمعالجة الآلية للغات الطبيعية Natural Languages Processing، وعلم الذكاء الاصطناعي Artificial intelligence science، والإبستمولوجيا الرقميةDigital Epistemology , والصحافة الرقمية Digital Journalism، والإعلام الرقمي Digital Media، والأرشفة الإليكترونية للنصوص والوثائق Electronic Archiving of Texts and Documents، والأدب الرقمي Digital Literature ، وإنترنت الأشياء Internet Of Things، والطباعة ثلاثية الأبعاد 3d Printing، وغيرها من العلوم.
إنَّ الرقمية وما تملكه من أدوات وتكنولوجيات فائقة تعد من أكبر مولدات للبيانات علي وجه الأرض هذه الأيام، حيث تعد هذه البيانات مصدرًا كبيرًا وأساسيًا من مصادر إنتاج المعرفة؛ فهل من الصحيح أن يترك المفكرين والفلاسفة شأن دراسة العلوم الرقمية ومعالجة البيانات وإنتاج المعرفة وإدارتها لاختصاصي التقنية حصرًا؟!، فمن أجل فهم العالم المعاصر ومقاربة مستجداته يجب أنْ تؤخذ العلوم الرقمية في الاعتبار، ويجب أنَّ تتم دراستها دراسة فلسفية معيارية خالصة؛ حيث إنَّ من أهم صفات العلوم الرقمية إنها علوم بينية تدعم عملية الإنتاج المعرفي المشترك، يسهم في إنتاجها فرعين معرفيين متباينين على الأقل، كما إنها علوم يغلب عليها الطابع المعياري المجرد.
الثورة الرقمية ثورة فلسفية:
إنَّ الثورة الرقمية ليست حدثًا تقنيًا فحسب؛ بل إنها بالتوازي حدثٌ فلسفي، وكما كتب "غاستون باشلار" في عام 1934م إنَّ "العلم يخلق الفلسفة فعلًا"، سنرى كذلك كيف تخلق التكنولوجيا الفلسفة، وكيف أنَّ الآليات والعلوم الرقمية نظريات مجسدة مما هو واقعي، أو فلسفات مُشيئة للواقع. هذا لا يعني فقط –كما أكد من قبل بعض الباحثين_ أنَّ "ما يوجد في الآلات هو من الواقع الإنساني، ومن الحركات والأنشطة الإنسانية في سياقات مختلفة، بل يعني ذلك أنَّ الآليات التقنية والعلوم الرقمية كانت – وما زالت دائمًا – "آلات فلسفية"، أي شروط ووسائط لإمكانية تحقُّق ما هو واقعي، أو بصيغة أفضل، مولداتٍ للواقع.
لذلك وجب علينا لفهم هذه العلوم تبيان الأسس التي بني عليها كل علم من العلوم الرقمية، والمنهجيات التي يتبعها لتحقيق أهدافه، كذلك دراسة التحديات الأخلاقية التي تنتج مصاحبة لهذا العلم أو هذا الوسيط الرقمي، ومن ثم دراسة نتائج هذه العلوم وآثارها على مجتمعاتنا سلبًا وإيجابًا.
قديمًا، كنَّا نفرق بين ثقافتين: الثقافة العلمية والثقافة الأدبية، أمَّا الآن فأصبح لدينا ثقافة تقليدية وثقافة رقمية، وأصبح كذلك لدينا وسيطين ثقافيين: الوسيط الثقافي التقليدي (الكتاب) والوسيط الثقافي الرقمي (العلوم ذات الطبيعة التفاعلية). لقد فرضت العلوم الرقمية سلطتها بقوة وسرعة، وأصبحت تزاحم العلوم التقليدية بما تمتلكه من أدوات وتقنيات جديدة أتاحت لها التنوع والانتشار، وأضفت الإثارة والابتكار، ساهمت في هذه الهيمنة الخطى السريعة التي يخطوها العالم الآن نحو رقمنة كل شيء.
المهارات الرقمية ضرورة عصرية ملحة:
باتت فلسفة العلوم الرقمية ضرورة ملحة في هذا العصر الرقمي، تخصص جديد يضاف إلى تخصصات العلوم الإنسانية والاجتماعية؛ حيث علت الأصوات وزادت الدعوات بالمناداة بضرورة نشر ثقافة التعليم الإلكتروني؛ فأصبح تحويل جميع العلوم إلى صورة رقمية ضرورة في زمن التعليم عن بعد، وخاصة بعد إعلان فيروس كورونا (كوفيد-19) جائحة عالمية، ومن ثم محاولة التغلب على تداعياتها بضرورة تقليل الاختلاط بين الناس منعًا لانتشار الفيروس.
وفي الأخير يمكننا التأكيد على ضرورة أنْ يتناسب التأهيل العلمي والأكاديمي لطلابنا اليوم مع مستجدات العصر الرقمي، وأنْ يتم الاهتمام بالعلوم الرقمية ودراستها وتدريسها في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية، كأن يتم إنشاء برامج أو أقسام علمية رقمية مناظرة للأقسام العلمية التقليدية، أو تغيير طبيعة الدراسة لتدمج بين التأهيل التقليدي والتأهيل الرقمي للطلاب، إضافة إلى ذلك يمكن إنشاء كليات كاملة للعلوم الإنسانية الرقمية.
الفلسفة - التفكير - العلم - التكنولوجيا - المنطق- العقلانية
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع