أوروبا ما بعد جائحة كورونا
د/ بكاري مختار | Dr. BEKKARI mokhtar
29/04/2020 القراءات: 5022
إن إعلان منظمة الصحة العالمية إلى تحول "القارة العجوز" إلى مركز لوباء "كورونا"، أدت إلى توالي على الاتحاد الأوروبي سلسلة من الأحداث التي مثلت صدمات متتالية، نتيجة اختلاف المواقف بخصوص العديد من التحركات الأحادية التي مثلت محور الأزمة، لا سيما غياب مبدأ "التضامن" والتعاون بين الدول الأعضاء، حيث غلب على بعض أعضائها النزعة الأنانية والانغلاق الذاتي، وإهمال روح التعاون والشراكة الأوربية التي تأسست عليها، مما طرح السؤال: كيف سيكون مصير الاتحاد الأوروبي بعد جائحة كورونا كوفيد 19 بعد صعود أصوات من عدة تيارات سياسية تطالب بالخروج من الاتحاد على غرار إيطاليا أو توديع فكرة الانضمام إليه؟ ما أدى إلى حدوث شرخ في البيت الداخلي الأوروبي.
فقد أثارت قرارات إغلاق الحدود البينية دون الرجوع إلى الاتحاد الأوروبي تصدعا داخليا، فقد انتقدت السويد إغلاق الدنمارك مجالها الحدودي معها، ثم إن الاختلافات بين أعضائها لمساعدة الدول الأكثر ضررا ألقت بظلالها كذلك، حيث تضغط إسبانيا وفرنسا وإيطاليا والبرتغال على كبار المسؤولين الأوروبيين بقصد إيجاد صيغة ملائمة لتقاسم الأعباء المالية، لكن هولندا وألمانيا تدافعان عن سن المزيد من التدابير المقيدة ووضع شروط اقتصادية، تلك الشروط التي ترفضها الضفة الجنوبية للاتحاد، التي تعد المنطقة المتضررة الكبرى حتى الآن من هذا الوباء، حيث ترفض تلك الدول مسارات العمل الألمانية المقترحة لمعالجة الأزمة وتدعمها هولندا، خاصة مسار التقشف الاقتصادي الذي تتبنّاه ألمانيا منذ فترة وقد يزيد من أعباء دفع الضرائب، ما يسبّب أزمات داخلية تعصف بالحكومات الحالية.
وكانت ألمانيا ودول أخرى قد رفضت مناشدة تسع دول، من بينها إيطاليا الأكثر تضررا، من أجل الاقتراض الجماعي عن طريق كما يطلق عليه "سندات كورونا"، للمساعدة في تخفيف الضربة الاقتصادية للوباء.
وتتركز المحادثات الحالية على حزمة مالية تتكون من: خط ائتمان احتياطي من آلية الاستقرار الأوروبية، وضمانات قروض من بنك الاستثمار الأوروبي لتوفير السيولة للشركات، ودعم من الاتحاد الأوروبي للشركات المفلسة والمتعثرة، ولا سيما دعم أجور العمال المهددين بالتسريح بسبب تداعيات أزمة كورونا.
إنّ الدول الغنيّة شماليّ الاتحاد الأوروبي (الأقلّ تضررا جرّاء فيروس كورونا)، تصرّ على ضرورة التزام أيّ دولة تحصل على مساعدة من آلية الاستقرار الأوروبية بالوفاء بشروط اقتصادية، وهو ما ترفضه دول أخرى وخاصّة إيطاليا.
ثمّ إنّ هناك خلافا حول مقترح إصدار سندات مشتركة لمنطقة اليورو، الذي تؤيّده فرنسا وإسبانيا وإيطاليا لمقاومة الانكماش الاقتصادي المتوقَّع حسب الخبراء، وقد يكون الأضخم منذ الحرب العالمية الثانية، ولكنّ ألمانيا وهولندا والنمسا تعارضه بشدّة، إذ هي من الدول الغنية والأقلّ تضررا من آثار الفيروس حتّى الآن.
ولأنّ النظر في "أزمة كورونا" أظهر تشتّت التكتّل الأوروبي القائم أساسا على روح التضامن، فقد دفع بعض زعماء أعضاء الاتحاد إلى تصنيف الجائحة على أنّها أسوأ أزمة صحّية في أوروبا منذ 1918م.
لذا، دعا "بيدرو سانشيز" رئيس وزراء إسبانيا إلى اتخاذ إجراءات أكثر صرامة لاحتواء الوباء داخل أوروبا، لافتا إلى أنّ هذا الظرف الاستثنائي يَرهن مصير الوحدة الأوروبية مستقبلا، وداعيا إلى ضرورة الاستجابة للأزمات الطارئة بصورة جماعية، عن طريق بناء "اقتصاد في زمن الحرب يعزّز المقاومة ويعيد التعافي".
التحديات المستقبلية داخل الاتحاد الأوروبي:
وبغضّ النظر عن الآليات التي سينتهجها الاتحاد الأوروبي لإيجاد صيغة ملائمة لتقاسم الأعباء المالية، ولا سيما للتكيّف مع صدمات المستقبل، فإنّ المزاج الشعبي الغاضب من سياسات "منطقة اليورو" إزاء أزمة "كورونا"، سيؤثّر في الاتجاهات السياسية الأوروبية مستقبلا، وسيعزّز فكرة الدخول بما يُسمّى بـ"الانعزالية الاجتماعية" حيال المجتمعات الأخرى، كما حدث لبريطانيا قبل خروجها من الاتحاد الأوروبي. فهذه الانعزالية الاجتماعية التي تولّدت نتيجة السقطات الأخلاقية وعدم الثقة حيال هذا المشروع لدى كثير من الشعوب المتضرّرة؛ قد تُؤشِّر على عاصفة سياسية في الانتخابات القادمة.
وتطرح الأزمة القائمة اتجاهين منفصلين:
1.اتجاه أول يسير في اتجاه حال عدم تعزيز الاندماج الداخلي بين أعضاء الاتحاد عن طريق إصلاحات جوهرية، قد يؤدّي هذا المنظور إلى خروج بعض الدول من الاتحاد الأوروبي، وتستغلّ ذلك التيارات القومية الشعبوية في الانتخابات القادمة كما حدث في بريطانيا.
2. اتجاه ثاني يدعو إلى وضع مزيد من الشروط حيال مفاوضات الانضمام إلى الاتحاد؛ لأنّ أزمة فيروس كورونا التي كشفت هشاشة الاتحاد في احتواء الوباء، راجعة إلى الفوارق في إدارة الأزمات بين دول في الاتحاد.
وتذهب جلّ تصريحات زعماء دول الاتحاد، لا سيما أقطابه الكبرى صوب خيار تدعيم صلاحيات المؤسّسات الأوروبية وعدّها أولوية قصوى للحدّ من صعود تيارات قومية يمينية مناهضة لمشروع الاتحاد الأوروبي، لكنها تشترط إعادة التفكير في المنظومة كلّها، بحيث تساير مطالب الأجيال والنخب الحالية في الاتحاد الذي تقوده الآن عقلية تقليدية بنفس تفكير ما قبل الحرب العالمية الثانية، وهذا ما يتطلّب إعادة نمط التفكير ومنظومة التفكير والإدارة لدى القادة المستقبَليّين لدول الاتحاد، وهي نفس المعضلة لدى الولايات المتّحدة الأمريكية.
وقد تداولت وسائل الإعلام في الدول الأوروبية العديد من التقارير التي تضمّنت انتقادات كثيرة لتراجع شعبية الحكومات الحالية داخل الاتحاد؛ بسبب نمط التفكير التقليدي داخل الاتحاد، ومخاوف صعود يمين جديد يستغلّ الثقافة الشعبوية ووسائل الاتصال، حيث أحيت الأزمة الصحّية الراهنة المشاعر القومية من جديد لدى الشعوب الأوروبية، مقتنعة أكثر فأكثر بعدم فعالية مؤسّسات الاتحاد ونجاعتها حيال حماية الأمن القومي داخل أقاليم دولها. ثمّ إنّ غياب التضامن وبروز النزعة الأنانية كشف القناع الأخلاقي للاتحاد، الأمر الذي قد يُعزّز أزمة المشروعية لدى النادي الأوروبي.
قد يكون الاتجاه الثاني الأقرب للحل
جائحة كورونا، الاتحاد الأوروبي، مستقبل أوروبا
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع