من رسالة الكندي في الإِبانة عن سُجود الجُرم الأقصى وطاعتهِ لله عزّ وجَلّ
13/04/2024 القراءات: 703
تعدّ رسالة الكندي إلى الأمير أحمد ابن الخليفة المعتصم، شاهداً على علوّ شأن فلاسفة الإسلام في البحث العقلي هذا من جهة، وتعدّ من جهة أخرى شاهداً على استقلاليتهم الفكريّة في تأسيس فكر فلسفي خاص بهم انطلاقاً من اللغة العربية التي هي لغة القرآن الكريم، وقد أوّل الكندي الآية الكريمة: "والنجم والشجر يسجدان" بناء على طلب من الأمير أحمد من الكندي أن يبيّن له كيف يمكن فهم هذه الآية بالمقاييس العقلية.
وجد الكندي في اللغة العربية وما فيها من اشتقاقات وتصريف أسماء طريقا لتأويل السجود بالمعنى الفلسفي أو المقاييس العقلية فقال: السجود يقال على وضع الجبهة في الصلاة وإلزام باطن الكفين والركبتين على الأرض. ويقال أيضا على الطاعة فيما ليست له جبهة ولا كفان ولا ركبتان وجملة ما لا يكون فيه السجود الذي في الصلاة. فمعنى سجوده هو الطاعة.
ثم قال: الطاعة تقال على التغير من النقص إلى التمام، وعلى الانتهاء إلى أمر الآمر، والانتهاء إلى أمر الآمر إنما يكون بالاختيار، والاختيار يكون لذوي الأنفس النطقية، ثم ينتهي إلى القول بأن سجود الأجرام يعني الانتهاء إلى أمر الآمر،(الطاعة) إذ ليس لها الآلة التي يكون بها السجود للصلاة، ولا هي منتقلة من نقص إلى تمام لأنه لا يعرض لها الكون والفساد" .
ثم أكد الكندي هذا التأويل لمعنى السجود بأقاويل منطقية فقال: إذا تقدم ما أردنا تقديمه من هذا القول فلنقل الآن في الإبانة عن الجرم الأعلى بجميع أشخاصه أنه حيّ مميِّز ليتضح أنه مطيع طاعة اختيارية بأقويل منطقية ظاهرة الإيضاح.
الدليل: أن الجرم الأقصى حيّ:
الفلك جرم وكل جرم لا يخلو من أن يكون حياً أو لا حياً. إذا الفلك إما حي وإما لا حي.
وكل علة إما أن تكون عنصر، أو صورة، أو فاعلا، أو غاية. والفلك ليس بعنصر للمكونات لأن العنصر المكون يستحيل من صورة إلى صورة والفلك غير مستحيل، ولا هو صورة لأن الصورة غير مفارقة عنصرها، والفلك مفارق للمكونات. ولا هو غاية لأن الغاية شيء يلحق بالجسم، فلم يبقى إلا أن يكون الفلك علة فاعلة قريبة لكل مكوَّن، وفعله بالحركة الذاتية الدائمة.
إذن: الجرم الأقصى حيّ بالفعل، ومفيد الجرم الأدنى الواقع تحته الحياة اضطراراً".وإذا ثبت أن الأجرام الفلكية حيّة، فإن الخاصة اللازمة للحي هي الحسّ وقوة التمييز، فهي إذا ناطقة.
الدليل أن الجرم الأقصى ناطق:
لا يخلو أن تكون ناطقة أو لا ناطقة
والجرم الناطق أشرف من الذي هو لا ناطق
وإن لم تكن ناطقة وهي علة كوننا ووجودنا فنكون أشرف منها، وقبيح أن يكون المعلول أشرف من العلة.
النتيجة:
أولاً: استطاع الكندي أن يصل من خلال اللغة على المعنى الفلسفي للسجود وهو الطاعة، والطاعة تعني الانتهاء إلى آمر الآمر، والانتهاء إلى أمر الآمر لا يكون إلا بالاختيار، ثم استدل منطقياً على أنها ناطقة بأنه إذا ثبت أن للجرم العلوي طاعة اختيارية ثبت أنه حي مميز ناطق.
ثانياً: بنى الكندي هذا التأويل بناء على النظرية الفلكية التي تقول بمركزية الأرض، وبحسب هذه النظرية التي تمتد بجذورها غلى الشرق القديم، فإن العالم بأسره يشبه كائن حيّ فهو جسم، وذو نفس وذو عقل وروح، وهو مخلوق لله تعالى الصانع، المدبّر، وكل ما في هذا الكون مخلوق وهو مطيع لله تعالى وممتثل لأمره.
ثالثاً: إنّ النظر في حكمة الأولين يثير في النفس تساؤلات كثيرة حول فهم هذا العلم وحقيقته، حتى أنّ المرء يتشكك في صحة النظريات العلمية، وهذا جائز في العلم، خاصّة وأنّ العلم لا يقول بالحقيقة المطلقة وإنما الحقيقة العلمية نسبيّة، هذا من جهة ومن جهة أخرى أننا بالعين المجردة لا نرى إلا نصف السماء.
العقل، الفلسفة، السجود، العربية، الطاعة
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع
مواضيع لنفس المؤلف
مواضيع ذات صلة