مدونة د. جميل مثنى الحبري


ما أرخص الإنسان في بلاد اليمن

د. جميل مثنى الحبري | Jameel Alhipary


24/02/2022 القراءات: 1845  




كلُّ شيءٍ في هذه البلاد في ازدياد، وفي اضطرامٍ وارتفاعٍ واشتعالٍ واهتياج و... غلاءٌ مستشرٍ في كلِّ شيء؛ في أسعارِ الأدوية، والمواد الغذائيّة، واللحوم، والخضروات والفواكه، ومواد البناء، والمشتقات البترولية، وفي اكتراء البيوت والمحلّات التجاريّة، وفي دفع فواتير الكهرباء والمياه والتلفون، وفي دفع تَعرِفَة الاتّصالات والنت، وفي دفع أقساط المدارس- في ظلّ غيابِ المعلّم والتعليم، وانعدامِ فاعليّتهما في المدارس الحكوميّة- وفي كُلفَة جَلبِ خزانات المياه (وايِت الماء حسب اللهجة المحليّة)، وفي اكتراءِ وسائل المواصلات لا سيّما في ظلّ أزمة المشتقات النفطيّة الخانقة، وفي قيمة المعاينة في العيادات، وفي سعر الفحوصات، وفي دخول المشفى أو المستشفيات، وفي كلِّ متطلّبات الحياة ومستلزماتها، باستثناء أمرٍ واحد، ما زالت قيمتُه كما هي، بل بالعكس في تدنٍ وهبوطٍ متسارع، في عدٍّ تنازليٍ رهيبٍ مفجعٍ مخيف، في عمليةٍ عكسيّةٍ مغايرةٍ لعملية الصعود والارتفاع الخياليّة الأولى، ولحركة عقاربِ العدّاد التصاعديّة فيها، ألا وهو سعرُ المواطن اليمنيّ أو اليمانيّ- حسب إطلاق علماء الصرف النِّسبةَ لكلِّ من ينتمي إلى (اليمن)- وقيمتُه، حتى غدا ذلك بمثابة المسلّمة التي لا شكّ فيها، ومن البديهيّات المُتعارف عليها، فلا أحد يُنكر ذلك، ولا أحد يُمكنه غضَّ الطرفِ أو التغاضي عنه. فالكلُّ يُتاجرُ به، والكلّ ينهشُ فيه، والكلُّ يتحدّث باسمه، والكلُّ يُنصِّبُ نفسَه نائبًا عنه أو قائمًا مقامه. ولله درُّ شاعر اليمن وأديبها عبد الله البردوني، فقد أحسنَ تشخيصَ الدَّاءِ العُضال، ووضعَ يده على الجرح، بل الجراح والأسقام التي عصفت- وما زالت تعصِفُ- بالبلاد والعباد؛ مخاطبًا في ذلك (صنعاء)- مجازًا والمرادُ خطاب أبنائها- بوصفها رمزًا ومعادلًا رمزيًا لـ(الوطن) كلِّه، في قصيدة (مدينة بلا وجه) (يناير 1971م):
أَتَدرِينَ يَا صَنَعاءُ مَاذَا يَجرِي؟ *** تَمُوتِينَ فِي شَعبٍ يَمُوتُ وَلَا يَدرِي
تَمُوتِينَ.. لَكِن كُلَّ يَومٍ وَبَعدَمَا *** تَمُوتِينَ تَستَحِينَ مِن مَوتِكِ الُمزرِي
وَيَمتَصُّكِ الطَّاعُونُ لَا تَسأَلِينَهُ *** إِلَى كَم؟ فَيَستَحلِي المُقَامُ وَيَستَشرِي
ويتماهى ذلك ويتراسل مع ملفوظ خطابه في قصيدة (يمني في بلاد الآخرين) (أكتوبر 1972م): (يَا رِيحُ.. بِلَادِي خَلفِي *** وَمَعِي مِثلِي مَنسِيَّهْ) (حَتَّى أَرضِي يَا أَرضِي *** كَأَهَالِيهَا مَنفِيَّهْ) (وَطَنِي أَسفَارٌ تَمضِي *** وَتَعُودُ بِلَا أُمنِيَّهْ) (تَشرِيدٌ لَا بِدءَ لَهُ *** وَمَسَافَاتٌ وَحشِيَّهْ). واختتمها: (وَبِلَادُ بِلَادِي مَنفَى *** وَمَتَاهَاتٌ أَبَدِيَّهْ) (مِن أَينَ أَنَا؟ مَجهُولٌ *** جَوَّالٌ دُونَ هَوِيَّهْ) (وَبِلَا وَطَنٍ لَكِنِّي*** مَوهُومٌ بِالوَطَنِيَّهْ). فقد استحالت الأفراحُ لدى هذه (الذات) (ذات شاعرنا البردوني)- بوصفها معادلًا رمزيًّا لـ(الذات الجمعيّة)- في بلادَه ووطنه كالأتراح، والجوعُ كالشَّبَع، والاجتماعُ بالأهل والعشيرة كالعزلة، والأصدقاءُ كالأعداء: (تَسلِيَاتِي كَمُوجِعَاتِي، وَزَادِي *** مِثلَ جُوعِي، وَهَجعَتِي كَسُهَادِي) (وَكُؤوسِي مَرِيرَةٌ مِثلَ صَحوِي *** وَاجتِمَاعِي بِإخوَتِي كَانفِرَادِي) (وَالصَّدَاقَاتُ كَالعَدَاوَاتِ تُؤذِي *** فَسَوَاءٌ مَن تَصطَفِي أَو تُعَادِي)؛ بل إن بلاده قد غدت- لشدّة ما يلاقيه فيها من خطوبٍ وملمّاتٍ- كالمنفى: (إنّ دَارِي كَغُربَتِي فِي المَنَافِي *** اِحتِرَاقِي كَذِكرِيَاتِ رَمَادِي) (يَا بِلَادِي! الَّتِي يَقُولُونَ عَنهَا *** مِنكِ نَارِي وَلِي دُخَانُ اتِّقَادِي)، بل إنه على الرغم من كونه يلفى في بلاده كلَّ شيء، فإنه لا يجد فيها ذاته الرامزة لـ(الذات الجمعية) وبلاده مهجة فؤاده: (يَا نَدَى... يَا حَنَان أُمُّ الدَّوالي *** وبِرُغمِي يُجيبُ مَن لَا أُنَادِي!!) (هَذِهِ كُلُّها بِلَادِي... وَفِيهَا *** كلُّ شيءٍ... إلَّا أَنَا وَبِلَادِي!!). وكذلك في وصفه لما سيؤول إليه حال المواطن اليمني في قصيدة (مواطن بلا وطن) (1970م): (مَوَاطِنٌ بِلَا وَطَنْ *** لَأَنَّهُ مِن اليَمَنْ) (تُبَاعُ أَرضُ شَعبِهِ*** وَتُشتَرَى بِلَا ثَمنْ) (يَبكِي إِذَا سَأَلتَهُ *** مِن أَينَ أَنتَ؟ أَنتَ مَنْ؟) (لأنَّه مِن لَا هُنَا *** أَو مِن مَزَائِد العَلَنْ).
إنّه ليسَ شعورًا من قِبل هذه (الذات) بالغربة والاغتراب عن الوطن، وبالتالي الفرار منه واللوذ بالعالم الآخر، العالم البديل، عالم الأحلام واليتوبيا (Utopia)، وليس خضوعًا لـذلك (الليل)- الرامز للاستبداد والتسلط، المتجسّد في صورة كائن هلامي مُستبِدٍ بها، مُطبِقٍ ومحكِمِ الخناق عليها- وليست سلبيةً، غيرَ فاعلةٍ؛ في كونها لا تبدي أدنى مقاومة أو مواجهة، بل هو تحدٍّ له، ومقارعته، بل ورفض الموت القسري ذاته، كما يتجلى في قصيدته (أنسى أن أموت) (1971م) التي مطلعها: (تَمتَصُّنِي أَموَاجُ هَذَا اللَّيلِ فِي شَرَهٍ صَمُوتْ) (وَتُعِيدُ مَا بَدَأَتْ، وَتَنوِي أَنْ تَفُوتَ وَلَا تَفُوتْ) (فَتُثِيرَ أَوجَاعِي وَتُرغِمَنِي عَلَى وَجَعِ السُّكُوتْ) (وَتَقُولُ لِي: مُتْ أيُّهَا الذَّاوِي، فَأَنسَى أَن أَمُوتْ). فالصمت والسكون، فضلًا عن كونهما رمزين لـ(الجبناء)، وعلامة سيميائية دالة عليهما، فهما صفتان ملازمتان لـ(الموتى). ويتجلّى هذا التحديّ في ما يختلج (الذات) من غلٍّ وإصرارٍ وتحدٍ، ويعتصرُ ويثورُ في كوامنها إزاء أولئك المستبدين بالفقراء والمستضعفين، وبالأيتام والأرامل، وكذلك إحساسه بأنين المدينة وأشجان بيوتها. لذا فهي لا تبالي بهم، ولا ما ينجمُ عنهم، فهو مستعدٌ لمجابهتهم وحده، والتصدي لهم بما يجيش في خلجاته من صدق المشاعر، وقوة الكلمة، وحرارة الإحساس: (لَكِنَّ فِي صَدرِي دُجَى الموتَى وَأَحزَان البُيُوتْ) (وَنَشِيج أَيتَامٍ، بِلَا مَأوَى، بِلَا مَاءٍ وَقُوتْ).


المواطن الإنسان اليمني


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع


يتبع الجزء الثاني من المقال


يتبع الجزء الثاني من المقال