التربية الروحية وأثرها في الحد من آثار جائحة كورنا زمن الحداثة السائلة
17/11/2020 القراءات: 4121
سعت الحداثة منذ عصر الأنوار إلى الإعلاء من شأن الإنسان بجعله مركز الكون، والمتحكم والمهيمن على العالم فعقل الإنسان بحسب الفكر الحداثي له من القدرات والطاقات ما يكفيه لتفسير ذاته وبيئته المحيطة به دونما حاجة إلى التفسيير الغيبي أو الوحياني، ولقد نجحت هذه الفلسفة العقلانية المادية إلى حد كبير في إقصاء البعد الروحي للإنسان، وأفرزت ما سماه الفيلسوف وعالم الاجتماع زيغموند باومان بالحداثة الصلبة، غير أنها وبعد تراجع الإهتمام بالجوهر الإنساني مع طغيان الرأسمالية وثقافة السوق والإستهلاك، وكذلك نهاية اليقينيات القطعية مع الفكر العدمي؛ ثم تفكيك الإنسان وإنزاله من عرش المركزية واختزاله إلى شيء أحادي البعد (جسد، جنس، لذة) وظهور أنماط الإنسان الإستهلاكي والجنسي والشيئي، لتتحول الحداثة إلى حداثة سائلة، حيث العيش في زمن اللايقين وزمن الروابط الإنسانية الهشة وزمن الخوف، وصار كل شيء في حالة تغير دائم، والحقيقة المطلقة الوحيدة هي السيولة الكلية.
لقد تسربت السيولة إلى كل نواحي الحياة، وانقلب هرم القيم حتى صار اللامعنى واللاغاية واللايقين هو اليقين الوحيد، كل هذا يجعل الحياة مملوءة بالمخاوف الناتجة عن عدم اليقين بعد إزاحة المسلمات والمقدسات واليقين الديني؛ لذلك ندرك اليوم الخوف والقلق اللذان ينتابان العالم من فايروس كورونا في ظل الغموض الذي لا يزال سائدا بشأنه مما زاد درجة الخوف عند الأفراد من كل التداعيات المحتملة والغير المحتملة التي سترافقه.
إن زمن كرونا الذي نعيشه اليوم هو زمن سيولة بما هو زمن افتقاد الوجهة الواضحة وزمن استهلاك الأمكنة وبروز اللامكان الإفتراضي والعلاقات الإنسانية السائلة عبر شبكات التواصل الإجتماعي، وعلى صعيد آخر بات جليا تأثير هذه الجائحة وانعكاساتها عل قيمة العمل حيث فقد مركزيته وصلاتبه وصار لزاما دوران مهمته ومساحاته مما انعكس على الحياة اليومية للناس، وفقد الأفراد ثقتهم في ذواتهم في ظلال الرعب من الفقد والخوف القادم.
وعليه فإن الإنسانية اليوم في حاجة ملحة لمعايير صلبة تخلخل وتزعزع أسس الحداثة السائلة، وتبين عوارها ولن يتم ذلك إلا بتربية روحية ركيزتها التوابث الدينية والعقيدة الصحيحة، والتي من شأنها تعزيز قيم التضامن والتكافل ونشر الطمأنينة.
كشفت أزمة كورنا الحالية عن أمر مهم جدا وهو دور القيم الروحية وتعزيزها في إحكام مواجهة الآثار النفسية والإجتماعية وذلك بالتعالي عن الفردانية وحب الذات وتكريس قيم الأخوة والجماعة والتضامن والرحمة والتراحم والتعاون وقيم الحذر والأخذ بالأحوط، كل هذه القيم يجب تعزيزها في التنشئة الأسرية والمدرسية بالقدوة والمثال، فالبشرية اليوم تحتاج إلى الإيمان الذي يمنحها الطمأنينة واليقين، والمعنى والغاية من الخلق والحياة، ومن مظاهر الحداثة السائلة نشر الخوف وتغييب الإطمئنان الروحي بعدما فشلت الحداثة في تحقيق وعودها بالفردوس الأرضي والأمل بتحقيق السعادة الدائمة للجميع ونشر الراحة والسكينة، حيث استغلت تيارات النزوع المادي الجشع غريزة الخوف لدى الإنسان لجعلها مصدرا للربح المادي؛ يقول باومان:"ما أكثر الأموال التي يمكن أن يدرها الشعور بالخوف وعدم الأمان" فهذه شركات الدعاية والإعلان في الدول العظمى تستغل عن عمد الهواجس والمخاوف المنتشرة من شبح الإرهاب من أجل زيادة مبيعاتيها من الأسلحة والتسلح، فالخوف صار وقودا للاستهلاك، كما اللذة والمتعة الآنية؛ والآن نرى التسابق لاكتشاف لقاح ضد فايروس كوفيد 19، الذي قد تكون بواعثه نوعا من الحروب البيولوجية التي تخوضها الدول الكبرى في الصراع من أجل السيطرة على العالم والهيمنة على الأسواق العالمية، وبهذا نجحت تيارات النزوع المادي الجشع في تسويق رأس مال الخوف والإستخدامات السياسية له. فهل هذا اللقاح سيخفف من حدة الخوف الذي تشعر به البشرية أم سيفاقم الوضع نحو الأسوء؟
الحداثة السائلة ـ التربية الروحية ـ جائحة كورنا ـ القيم
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع
مواضيع لنفس المؤلف
مواضيع ذات صلة