مدونة محمد الصديق احمموشي


مفهوم النهضة الأوربية والعوامل المساهمة في قيامها

محمد الصديق احمموشي | Mohamed Seddik Hmamouchi


30/09/2020 القراءات: 66207  


عاشت أوربا فتره انتقالية مفصلية في تاريخها مابين القرنين 14 و17 الميلادي، وهي الفترة التي يطلق عليها اسم النهضة الأوروبيّة أو عصر النهضة. وبذلك تكون النهضة الأوريبة هي تلك الحركة الثقافيّة التي انطلقت من إيطاليا في نهايات العصور الوسطى، ثم بدأت تتوسّع شيئاً فشيئاً لتشمل كلاًّ من فرنسا، وإسبانيا، وألمانيا، وهولندا، وإنكلترا وباقي أنحاء أوروبا، مستفيدة من ظهور عدة اختراعات كالورق فضلا عن الانتشار السريع لهذه النهضة في الفترة الممتدّة في أواخر القرن الخامس عشر. ويحيل عصر النهضة أيضا على حركة تجديد شاملة عرفتها أوربا في مختلف المجالات الفكرية والعلمية والتقنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعي منذ مطلع القرن الرابع عشر، كما شهدت المنطقة نهضة تحررية ضد كل القيود والنماذج الكلاسيكية النمطية التي كبحت عنان العقل الأوربي وجعلته سجين نظام فيودالي عتيق قائم على اقتصاد الأرض وثقافة الدين.
انطلقت أوربا في إبداعاتها ونهضتها في مختلف الميادين، وساهم في ذلك عدة علماء ورواد ك"بيترارك" في ميدان التعليم، و"دافينتشي" في مجال الرسم، و"كلومبوس" في عالم الملاحة البحرية، و"جون كالفن" في الحقل الديني وغيرهم من الرجال الذي غيروا ملامح أوربا بشكل كامل يقطع مع النسق الفيودالي والكنسي الذي كان سائدا في العصر الوسيط.
ويبقى السؤال منطقيا حول الأسباب الممهدة لمثل هذه النهضة الفريدة التي ظهرت بإيطاليا، لفهم طبيعة التحولات المادية والفكرية التي شهدتها أوربا وسرّ قوتها التي استطاعت أن تحكم بها العالم لعقود طويلة.
وهكذا يمكن أن نتحدث عن مجموعة من العوامل التي أنتجت مفهوم النهضة الأوربية، وخصوصا بإيطاليا، ستشكل أهم محاور موضوعنا وهي على النحو التالي:
 الفقرة الأولى: العامل الجغرافي
 الفقرة الثانية: عامل اللغة والتراث
 الفقرة الثالثة: العامل الاقتصادي والعلمي
 الفقرة الرابعة: العامل الديني والقومي

الفقرة الأولى: العامل الجغرافي
كان العامل الجغرافي حاسما في قلب كل الموازين لصالح إيطاليا وجعلها تلعب دورا محوريا كوسيط بين العالم الإسلامي الذي كان رائدا في حضارته خلال العصور الوسطى، وبين العالم الأوربي. فبحكم قربها من العواصم الإسلامية القوية حضاريا وعلميا كالأندلس ومصر والشام، استطاعت إيطاليا أن تنقل من هذه الأخيرة علومها وحضارتها سواء عن طريق الترجمة أو باستضافة علماء مسلمين برعوا في الطب والفلك وسائر العلوم من أجل التدريس في جامعاتها. كما أن قربها من بيزنطة العاصمة العلمية الرائدة مكّن من خلق حركة تأثير وتأثر علمية وحضارية غير مسبوقة أفرزت تحولات عميقة على المجتمع الإيطالي ستفرز نهضة أوربية لاحقة.
الفقرة الثانية: عامل التراث واللغة
مما لا شك فيه كانت إيطاليا، خلال العصور الوسطى، البلد الأوربي المؤهل لاحتضان ثورة ثقافية كبرى بإمكانها قلب الطاولة على الفكر الكنسي السائد؛ فإيطاليا تزخر بثقافة فنية ومعمارية قلّ نظيرها في باقي بلدان المعمور، فضلا عن توفر مكتباتها ومتاحفها على مخطوطات وآثار وعناصر ثراثية نفيسة جعلتها الوريث الأمثل لحضارتي الإغريق والرومان.
من جهة أخرى، أدى سقوط القسطنطينية إلى هجرة عدد كبير من العلماء إلى إيطاليا خاصةً، وحملوا معهم كلما استطاعوا من كتب إغريقية وتماثيل وأدوات تراثية. فتولدت لدى العلماء والقادة السياسيون الرغبة والعزم على بعث الثقافة اللاتينية وتطويرها في قالب جديد كان نواة للنهضة الأوربية.
عامل آخر ساهم في بزوغ فجر النهضة الأوربية بإيطاليا وعبرها بدول أخرى كفرنسا وانجلترا، ويتعلق الأمر بتشجيع اللغة الوطنية وتوسيع مجالات استعمالها ليتحدث بها معظم أبناء الشعب، بعدما كانت اللغة اللاتينية وهي لغة العلم والثقافة محصورة في رجال الدين. وكان لتشجيع بعض الحكومات الأوروبية للغات القومية وإقبال بعض الكتاب على التأليف بها أثر كبير في نشر الثقافة بين طبقات الشعب، وهو السبيل الذي بادرت إليه إيطاليا في سياستها اللغوية.
الفقرة الثالثة: العامل الاقتصادي والعلمي
كانت إيطاليا، منذ القرن 11، على موعد مع إقلاع اقتصادي مهم مكّنها من لعب دور الريادة على مستوى مجال البحر الأبيض المتوسط. فانتعاش التجارة بين الغرب والشرق و خاصة عبر هذا المجال الأخير، جعل من مدن إيطاليا المطلة عليه تشهد رخاءً اقتصادياً، مستفيدة من احتكار سفنها معظم التجارة الأوربية مع الشرق، فجلبت كل البضائع الناذرة والثمينة كالتوابل والحرير والمصنوعات الذهبية والفضية.
ساعد هذا الرواج الاقتصادي على ظهور طبقة غنية استأثرت بالسلطة و تحررت من السيادة الإقطاعية فنافستها واستقلت عنها معززة هذا الاستقلال بتبادل السفراء والقناصل مع الدول التي ترتبط معها بعلاقات تجارية.
على مستوى آخر، مكنت الاختراعات العلمية، وأهمها صناعة الورق والطباعة والأسطرلاب، الأوربيين عموما والإيطاليين على وجه الخصوص، من مفاتيح النجاح والتقدم من أجل تغيير أوضاع أوربا القديمة وبعث أوربا حديثة.
الفقرة الرابعة: العامل الديني والقومي
استفاد الإيطاليون من تواجد مقر الفاتيكان بأرضهم، فتحققت له الوصاية على الشأن المسيحي ليس فقط في أوربا ولكن عبر كافة البلدان التي تدين بدين عيسى عليه السلام. أيضا ساهم ذلك في ظهور المجامع العلمية لأول مرة خارج النفوذ الكنسي بإيطاليا، فأصبحت هذه الأخيرة، إن صح القول، الناطقة باسم المسيح على صعيد القارة الأوربية كلها.
ونتيجة لذلك، ظهرت بإيطاليا نزعة قومية كان من أهم أهدافها توحيد العالم الأوربي والمسيحي والانطلاق من أجل تحقيق وحدة شاملة أساسها الانتماء المشترك في الدين واللغة والأرض.

وكخلاصة يمكن القول أنه لم يكن سهلا تصور ثورة شاملة أحدثت قطيعة تامة مع الفكر الكنسي والإقطاعي الذي عمّر طويلا وأرسى دعائمه بقوة في القارة الأوربية، لولا تظافر عوامل جغرافية، لغوية، تراثية، اقتصادية، علمية، دينية وقومية وجدت التربة خصبة في إيطاليا لتنضج ما يسمى بالنهضة الأوربية.


النهضة، أوربا، إيطاليا، العوامل


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع