25 يناير والتلفاز : قصة من رحم العمر 2
أحلام أحمد عبد الوهاب | Ahlam Ahmed Abdel wahab
10/01/2022 القراءات: 3086
هذا الاتصال الوثيق بهذا الصديق الخشبي جعلني لا أهتم بزيادة وحدتي بازدياد عمري بعدما أصبح من غير اللائق أن نلعب بشارع قريتنا، وأصبحت صديقاتي لا يسمح لهن إخوتهن الذكور بالخروج من منازلهن، وبعدما أصبحنا نودع أفراد منزلنا واحدا تلو الآخر، وبعدما أصبح أبناء عمومتي يهتمون بالجلوس بمجالس الرجال فقط، تغيرت كل الأحداث حولي جملة، وفجأة وجدتني كبرت لكن هذا الصديق لم يبتعد بعد عني برفقتي طوال الوقت، أتحكم في إسكاته وقتما أحببت، وأجعله يتحدث وقتما أردت، كان لدي قدرة على أن أذاكر بجواره ولا يحرمني ذلك من مصاف أوائل المدرسة، كان يصعب على أبي وأمي أن يغلقاه إلا إذا استغرقت في النوم، وإذا أصابني القلق كنت أفتحه لأتمكن من معاودتي للنوم في اطمئنان...
عندما انطلقت القناة الثامنة كان بمثابة ميلاد طفل جديد، كانت سببا في معرفتي جنوب مصر، وتراثه، وثقافته...
وعندما غابت عنا أمي صمت هذا الصديق عن التحدث حدادا، لكن أبي لم يترك صمته يتجاوز الشهرين على غير عادة أهل بلدتنا الذين لا يسمحون بإطلاق صوت أي راديو أو تلفاز قبل مرور العام أو ما يزيد، كان يعلم أنه مصدر للإيناس وشغل لعقلي عن الهموم التي ألمت بي، وعندنا غاب هو عني كرر الأمر أبناء عمومتي كي لا أظل وحيدة من كل الاتجاهات...
وهكذا توحدت مع التلفاز لسنوات كنت أعتز بهذا الصندوق وأرفض أن أستبدله بما هو أحدث منه، رفضت رفضا قطعيا غزو الوصلة والريسيفير تمسكا بهذا التراث العتيق على القنوات الأرضية، أصبح في كل شقة جديدة بالمنزل العديد من القنوات، إلا أن مكاني لم يبرحه هذا الصندوق العتيق، كان الجميع يتعجب كيف أقضي طوال هذا الوقت أمام هذه القنوات القديمة، لكنه كان لي بمثابة التمسك بصديق مخلص لم يتغير قربه مني طوال هذه السنين، وعلي ألا أخون عهده،
ظللت هكذا متمسكة بقناعاتي راضية بها، ولم أغتر بأي الوان براقة تقدمها الفضائيات المتطورة بسرعة البرق
حتى جاءت أحداث الخامس والعشرين من يناير التي تابعتها عبر الإنترنت، وأصبت بالجنون عندما انقطع الإنترنت وأحاول أن أتابع الأحداث بدقة، وأنا أستمع إلى التلفازات التي تحيطني تعبر عن الثورة والغضب والانفجار، بينما أنا أتابع عن كثب العصافير الجميلة التي تلتقطها شاشات ماسبيرو فوق برج القاهرة، انتظرت طويلا أن يتغير رأيه ويصدقني القول ويقدم لي حقيقة ما يحدث لكن دون فائدة، اضطررت إلى تحطيم عهدي معه وامتلكت صندوقا حديثا ينطلق بي إلى العالم كله، ويسمعني آراء غير التي ربيت عليها، يقدم لي معارف لم يسمعها لي صديقي المخلص، ولم تمحنها لي كتبي الدراسية، أو مجلاتي التثقيفية، مررت ساعتها بصدمة المعرفة، وغياب جمال الجهل عن ناظري، كلما قرأت أو سمعت أدركت حجم الأكذوبة التي رافقتني عمرا في عالمي المغلق ذي النافذة الواحدة، لم تكن ماما سوزان ماما سوزان، لم يكن مبارك اختيار الشعب، لم تكن توشكي إلا مجرد حلم لم يصبح علما كما علمتنا الأغنية ودرسنا بالمدارس، أفقت على هوة شاسعة بيني وبين العالم، تهدم علاقتي بهذا الصديق الذي ما عهدته مخادعا لي "لست أدري كيف خان"...
في نهاية رحلة حديثي عن هذا الصديق الخشبي أخشى يوما باستمرار مرارة المعرفة أن أقنع تماما أنه كان من الأفضل أن أتخذ النوم صديقا والأحلام الخيالية رفيقا، بدلا من ذكريات جميلة كانت سببا في عزلي عن واقع لا أحبه، ومن ثقافة تبين لي بامتداد العمر مدى استغلالها لترويض عقولنا وفق سياسة صفوت الشريف ورسالته الإعلامية التي كانت تحفر في أرواحنا دون أدنى شعور بمدى سميتها في هذا العسل المعروض، وتستمر الرسالة الآن في إلهاء الأجيال بحثهم على افتقاد الأصول والمعتقدات والقيم، وتسمح لنشر الإسفاف والابتذال كي تبني جيلا ليس مغيبا عن بعض الحقائق كجيلنا، وإنما مغيب عن صناعة هذا الوطن وبناء مستقبله، ومن الطبيعي ساعتها أن يستأثر الإعلام المضاد بعقول على حافة هاوية الشك للقدح في أوطانهم، وبث سموم الكراهية لكل ما هو متصل بهذه الأرض الطيبة ، والتهوين من قيمة الدم المبذول ذودا عن الأهل والحدود وكرامة الوطن، والتشكيك في كل فعل طيب يمكن أن يخرج للنور...
الإعلام رسالة ألا قاتل الله من أفسدها، وأفسد قيمتها في بناء الأجيال، وحيا الله من قدمها صادقة مخلصة لبناء الأوطان، وذائقة الأجيال.
خواطر، قصص
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع