مدونة مسعد عامر سيدون المهري


بلاغة الدعاء وجوامع الكلم

مسعد عامر سيدون المهري | Musaad Amer Saidoon Almahry


26/05/2020 القراءات: 4271  


للدعاء قيمة إيمانية وتعبدية ظاهرة، حيث يظهر تذلل العبد وافتقاره وخضوعه لسيده ومولاه تبارك وتعالى. وعندما نتأمل في بعض الادعية في القرآن الكريم والسنة الشريفة، نجد أنها تتضمن مواطن بلاغية تعدل بها الى قمة الايجاز والتكثيف الصوتي الدلالي؛ ولذلك جدير بأن توصف بجوامع الكلم. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يذكر خصائص نبوته:" وأوتيت جوامع الكلم". ولنقف على بعض الأدعية لنلمس ما فيها من هذه البلاغة التي تلامس شغاف القلوب، وتظهر بواطن النفس وذلها وافتقارها وحاجتها الدائمة الى عون الله تعالى وتوفيقه. فمثلا عندما نادى زكرياء ربه طمعا في الولد الذي يحمل هم دعوته ومتطلبات العبودية، نجده يظهر جانبا كبيرا من جوانب العبودية حين يقول:" رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك شقيا .. وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب وجعله ربي رضيا.. الخ الآية"
قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي، أي ضعف عظمي، وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً يعني: أخذ في الرأس شيباً وبياضاً. شَيْباً صار نصباً بالتمييز، والمعنى: اشتعل الرأس من الشيب، يقال للشيب إذا كثر جداً: قد اشتعل رأس فلان بالشيب
وقد صورة الاستعارة في قوله ( واشتعل الرأس شيبا) التعبير عن الضعف وتحول الحال من قوة وفتوة الى شيخوخة وضعف، تلك الحالة التي تستدعي الحاجة إلى المساند والظهير، وليس أفضل من ولد يحمل الذكر ويقوم بالمسؤلية. وَشُبِّهَ عُمُومُ الشَّيْبِ شَعْرَ رَأْسِهِ أَوْ غَلَبَتُهُ عَلَيْهِ بِاشْتِعَالِ النَّارِ فِي الْفَحْمِ بِجَامِعِ انْتِشَارِ شَيْءٍ لَامِعٍ فِي جِسْمٍ أَسْوَدَ، تَشْبِيهًا مُرَكَّبًا تَمْثِيلِيًّا قَابِلًا لِاعْتِبَارِ التَّفْرِيقِ فِي التَّشْبِيهِ، وَهُوَ أَبْدَعُ أَنْوَاعِ الْمُرَكَّبِ. فَشُبِّهَ الشَّعْرُ الْأَسْوَدُ بِفَحْمٍ وَالشَّعْرُ الْأَبْيَضُ بِنَارٍ عَلَى طَرِيقِ التَّمْثِيلِيَّةِ الْمَكْنِيَّةِ وَرُمِزَ إِلَى الْأَمْرَيْنِ بِفِعْلِ اشْتَعَلَ.

وَأُسْنِدَ الِاشْتِعَالُ إِلَى الرَّأْسِ، وَهُوَ مَكَانُ الشَّعْرِ الَّذِي عَمَّهَ الشَّيْبُ، لِأَنَّ الرَّأْسَ لَا يَعُمُّهُ الشَّيْبُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَعُمَّ اللِّحْيَةَ غَالِبًا، فَعُمُومُ الشَّيْبِ فِي الرَّأْسِ أَمَارَةُ التَّوَغُّلِ فِي كِبَرِ السِّنِّ.

وَإِسْنَادُ الِاشْتِعَالِ إِلَى الرَّأْسِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ، لِأَنَّ الِاشْتِعَالَ مِنْ صِفَاتِ النَّارِ الْمُشَبَّهِ بِهَا الشَّيْبُ فَكَانَ الظَّاهِرُ إِسْنَادَهُ إِلَى الشَّيْبِ، فَلَمَّا جِيءَ بِاسْمِ الشَّيْبِ تَمْيِيزًا لِنِسْبَةِ الِاشْتِعَالِ حَصَلَ بِذَلِكَ خُصُوصِيَّةُ الْمَجَازِ وغرابته، وخصوصية التَّفْصِيل بعد الْإِجْمَال، مَعَ إِفَادَةِ تَنْكِيرِ شَيْباً مِنَ التَّعْظِيمِ فَحَصَلَ إِيجَازٌ بَدِيعٌ. وَأَصْلُ النَّظْمِ الْمُعْتَادِ: وَاشْتَعَلَ الشَّيْبُ فِي شَعْرِ الرَّأْسِ.

وَلِمَا فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنَ الْخُصُوصِيَّاتِ مِنْ مَبْنِيِّ الْمَعَانِي وَالْبَيَانِ كَانَ لَهَا أَعْظَمُ وَقْعٍ عِنْدَ أَهْلِ الْبَلَاغَةِ نَبَّهَ عَلَيْهِ"
لذلك ختم دعاءه بقوله واجعله ربي رضيا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ. وقال عكرمة: يرثني مالي، ويرث من آل يعقوب النبوة، وهكذا قال الضحاك. وقال بعضهم: يَرِثُنِي يعني: علمي وسنتي، لأن الأنبياء عليهم السلام لا يورثون مالاً. وروي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إنَّا مَعَاشِرَ الأنْبِيَاءِ لا نُوَرِّثُ مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ» . وروى أبو الدرداء عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إنَّ الأنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دَرَاهِمَ وَلا دَنَانِيرَ، وَإنَّمَا وَرَّثُوا هذا العِلْمَ» ويقال: لأنه رأى من الفتن وغلبة أهل الكفر، فيخاف على إفساد مواليه إن لم يكن أحد يقوم مقامه ويخولهم بالموعظة. قرأ أبو عمرو والكسائي: يَرِثُنِي وَيَرِثُ بجزم كلا الثاءين على معنى جواب الأمر، أي أنك إذا وهبت لي ولياً يرثني، وقرأ الباقون: يَرِثُنِي وَيَرِثُ بالضم. وقال أبو عبيدة: وهذا أحب إلي. قال: معناه هب لي الذي هذه حاله وصفته، لأن الأولياء قد يكون منهم الوراثة وغيرهم، فيقول: هب لي الذي يكون ورائي وارث النبوة. ثم قال: وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا، يعني: صالحاً زكياً..
وولعل من اللافت في هذه الآية الكريمة استهلالها بقوله تعالى: (ذكرى رحمة ربك عبده زكرياء) فكما يقول ابن عاشور رحمه الله :"فَرَحْمَةُ رَبِّكَ، فَكَانَ فِي تَقْدِيمِ الْخَبَرِ بِأَنَّ اللَّهَ رَحِمَهُ اهْتِمَامٌ بِهَذِهِ الْمَنْقَبَةِ لَهُ، وَالْإِنْبَاءُ بِأَنَّ اللَّهَ يَرْحَمُ مَنِ الْتَجَأَ إِلَيْهِ، مَعَ مَا فِي إِضَافَةِ رَبِّ إِلَى ضَمِيرِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِلَى ضَمِيرِ زَكَرِيَّاءَ مِنَ التَّنْوِيهِ بِهِمَا"
خلاصة الكلام في هذا المقام أن بنية الدعاء تتحرك في جانبين جانب شكلي يظهر في بنية الجملة وتحمله من معان موردة بأساليب مختلفة كالاستعارة والتشبيه والمجاز العقلي، وبنية داخلية تظهر مشاعر الانسان واستكانته وحاجته الى مولاه .. وقد اظهر دعاء زكرياء عليه السلام في هذه الآيات البينات بوضوح وجلاء هذه الظواهر البلاغية القيمة، التي جمعت المعاني الواسعة بعبارات موجزة سهلة. والله أعلم .


الدعاء ، البلاغة ، الإيجاز


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع