اللُكنة بين الجماعة والفرد/لكنة ياس خضر
سعد رفعت سرحت | Saad Rafaat sarhat
02/09/2023 القراءات: 1191
مُخطئٌ من ظنّ أنّ اللّكنة(Accent)تتعلّق حصرًا بآلة النطق عند البشر،فهذا إجحاف بحقّها،لأنّ اللكنة أبعد من ذلك بكثير، فهي _بتعبير جاك دريدا_((عبارة عن التحام جسديّ مع اللغة بعامة))●فاللكنة تتعدى اللسان و الجهاز النطقي لتشمل السّمت والهيئة والأعصاب والأوردة، إنّ طلبها يلزمك التكييف الجسدي و الفكري و العملي مع اللغة،ولهذا السبب يُصعب عليك ضبط لكنة القوم ما لم تعش بينهم، وتندمج فيهم، و تستقي من معينهم، وتهضم سائر أحوالهم،إلى أنّ تتشكّل في نفسك وجسدك طرقهم في النطق.اللهمّ إلّا إذا لجأت إلى التقليد المحض وغيّبتَ الوعي والتفكير،فعندئذٍ تستطيع أن تضبط قشور اللكنة،لأنّ الذي همّه ضبط الآلة سيغيّب التفكير حتمًا،و ينجح في التقليد الحرفي و بسرعة أكبر،خذ مثلًا (عبود سكيبة)المنجذب إلى الأنجليزية وهو يجيدها بطلاقة، لكنه لا يفهمها ولا يفكر بها ولا يعي من خلالها.
كان اللغويون القدامى يعدّون اللكنة مرادفًا للعُجمة وللرطانة التي هي تحريف للفصيح،فمن وجهة نظر معيارية ليست اللكنة إلّا عيوبًا نطقية،لِمَا فيها من تحريف للغة الرسمية،ومن تغليبٍ للعاميّ على الفصيح،و لِما في العامية من مظاهر الاستهانة بالأصوات والكلمات والتراكيب:(ابتلاع الأصوات و التشديد على بعضها بصورة غير منتظمة)على أنّ لهذه التحريفات و العيوب النطقية أثرًا سحريًّا في نفوس حاملي الثقافة !.
مثلما نستطيع الحديث عن اللكنة الجماعية كطريقة نطق خاصة وسمة من سمات الثقافة عند جماعة لغوية ما،كذلك نستطيع الحديث عن(لُكنة فردية)■خاصةٍ بفرد من أفراد الجماعة،لا سيّما إذا تعلق الأمر بأهل الفنّ والمشاهير وبعض من أصحاب الحرف النادرة.
لياس خضر جمهور كبير يمتد من البصرة الى زاخو،ولكنّ مجاذيبه على الأغلب كرد وتركمان،وقد صرح هو بذلك في أكثر من لقاء،...أقول عنهم(مجاذيب) لأنّ منهم من لا يجيد العربية تمامًا،فمثله كمثل المجذوب الذي ينجذب فيهذي بكلام لا يفهمه ولا يعيه.
لا أستطيع أنْ أحدد جغرافيًّا اللهجات التي غنى بها ياس خضر،غير أنّ روائعه تنتمي الى الجنوب،و إن كانت اللكنة الغالبة على أغانيه_إن كان ظنّي صحيحًا_ تنتمي الى الوسط (من الحلة وكربلاء إلى لا أدري أين)وهو فضلًا عن ذلك له أسلوب خاص به،وتستطيع أنْ تشخص أسلوبه من خلال مقلديه ومجاذيبه ومن يغنون روائعه،فلا أحد منهم يضبط طريقته في التغريد سوى المجاذيب،لأنّ وعي المجذوب وفكره يرتكزان على النطق السليم فحسب،أمّا الفهم و التفكير في معنى الأغنية ومضمونها فشأن آخر ليس في حسابهم..
عن نفسي عشت مع هؤلاء المجاذيب والتقيت بهم،منهم من يحفظ كلّ أغانيه، يحسن نطق العبارات والألفاظ على طريقته،غير أنه لا يفهما،أذكر حين سألني أحدهم عن معنى كلمة (سيمور !) وكلمة (بيسواليفنا !) وكلمة (بذيالكيوتجبجبيو).....فطلبت منه سماع الأغنية،و حين سمعت الأغنية ظهر أنّه يقصد بكلمة سيمور(سمر)و بكلمة بيسواليفنا (بسوالفنا) و بكلمة بذيالكيوتجبجبيو(بذيالك وتجبجب و...)لكنّ أبا مازن يلحّ في النبر فيشبع الكسرة والضمة والفتحة الى ما شاءت حنجرته الذهبية،حتى يصل الكلمة الواحدة بأختها وأختها الأخرى...
وهنا نلحظ أنّ النبر ظاهرة لهجية في المجتمع الذي ينتمي إليه ياس خضر،غير أنّ لياس لونًا خاصًا في النبر أبيًّا على مقلديه،إلّا المجاذيب منهم،وهاك اسمع الأغنية وانظر كيف ينطق بهذه الكلمات:(حزن_حيزن)(بغيومك السودة اندفن_ بغيومكيسودَنديفن)(انشر عالخلك ضيم السمر_انشر عالخلاك ضيم السيييمور)(بغيوم وقهر_بغيوم وقهار)
اكتفيت بهذه الأمثلة فحسب،وهمي من ذلك أنّ ضبط اللكنة يحيل على تكييف الجسد مع الأصوات و الألفاظ من جهة،وتكييف الفكر والوعي والعمل من جهة أخرى.
يقول لي هذا المجذوب:عندما كنت احفظ أغانية وأتمرن عليها كنت عند بعض الجمل والكلمات أحس بوجع في أذني ،وعند بعضها في حنجرتي،و عند بعضها أحس أن لساني ليس لي،و عند بعضها أتنفس من أماكن أخرى من رأسي...فضلًأ عن أنّ هناك جملا لا أوديها إلا بصحبة حركة جسدية لا عهد لي بها...
ياس خضر_أبا مازن_ يُعرف عند العراقيين بصوت الأرض. وحقًّا،فمثل أبي مازن يُشعِرنا بأنّ هذه الأرض تجمعنا_نحن بني الملحاء_ بعد أنْ فقدنا هذا الشعور على أرض الواقع.
رحمه الله تعالى
__________________
● أحادية الآخر اللغوية:٨٦. علمًا أنّ د.مهيبل يترجم Accent ب(النبر)
■ ما دام هناك من يتحدث عن(اللهجة الفردية)لنا أن نتحدث عن لكنة فردية،راجع مثلا القاموس الموسوعي لعلوم اللسان،ديكرو وسشايفر:١٣٠
اللكنة_لكنة الجماعة ولكنة الفرد
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع