البلاغة المُربِكة(المدح المطعّم بالذمّ) من منظور أنثروثقافي.
سعد رفعت سرحت | Saad Rafaat sarhat
02/01/2021 القراءات: 4703
الإنسان بطبعه جحود يستكثر على الآخر الإنصاف،إنّه جحود لا يجيد إخلاص المدح ولو كان هذا الآخر أهلًا لذلك،اللهمّ نعم إنّهُ يمدح ولكنّه وهو يمدح يطعّم مدحه بشيء من الذم ما استطاع،إنّه_إذ يمدح_ يخون أعماقه الوفية الى روح أسلافه الأولين....فأعماقنا_نحن بني البشر_ تأبى إلّا الانتقاص و التقليل من الآخر كسبيلٍ الى تأكيد الذات،فما للإنسان بدٌّ إزاء ذلك إلّا أنْ يشفع المدح بشيء من النقص أو من أماراته.
بهذا يمكننا تفسير أساليب المدح المرتبكة تفسيرًا ثقافيًا،و أرى أنّ أقرب الأساليب الى ما نحن بصدد الحديث عنه هو أساليب:المدح بما يشبه الذم،والمدح المشرّبُ بالذم،والمدحُ بألفاظ الذمّ،و الاستطراد من مدح الآخر إلى مدح الذات. فهذه الأساليب جديرة بالفحص والتدقيق.. _(أولا):المدح بما يشبه الذمّ،أو تأكيده بما يشبه الذم وعكسه،وهو في رأينا أسلوب خطير جماليًا إذ يعتمد الدهشة وكسر الألفة على ما أكدنا ذلك في مكان آخر .وهو حسب البلاغيين نوعان: أولهما أن يستثنى من صفة ذم منفية عن الشيء صفة مدح، كقول النابغة المشهور: ولاعيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب تكمن جمالية هذا الضرب من المدح في إيقاع الدهشة، فالشاعر يمدح ولكنه لمّا ينفكّ يبحث عن عيب ينقض به المدح؛ وكما يقول البلاغيون:((كأنه بحث عن صفات عيب فلم يجد فأتى بصفة المدح))وهو في أعماقه يقول:وا أسفاه!!!. هذا الأسلوب يغذّي في أعماق الشعراء قربهم و وفاءهم الى النماذج البدائية،فالذات الشعرية_لو سمحنا لأنفسنا استعارة كلمات كارل يونغ بتصرف_ هذه الذات عبارة عن متحف يضمّ كلّ الأشكال الفطرية و الاستعدادات الذاتية للإنسان الأوليّ بما أنه كائن جحود لا يمحض المدح أبدًا....
_(ثانيا):المدح المشرّب بالذم، ويُحمّل هذا الأسلوب على صيغ كثيرة أشهرها المدح يتلوه استثناء أو استدراك،وهكذا تسمعون كلّ يوم عبارات إطراء خجولة وهي أقرب الى الذم بل داخلة فيه،لأنها لا تحمل من المدح إلا رائحته،كهذه العبارات لا حصرًا:(عظيم إلا.....)و(جميل ولكن.....)فكأنك بقائلها يستكثر على الآخر إنصافه،أو لنقلْ إنّ روح الأسلاف تغلّ كلتا يدي المادح عن المزيد.
_(ثالثًا):المدح بألفاظ الذم،مثل:(قاتله الله _ابن الأبالسة_ الملعون_ ....الخ)على أن من أهل اللغة من حمل(قاتلك الله)ونحوه على التعجب،والعود به الى عادة العرب في الوصف والتسمية حين يبعدون بهما الحسد ويتقون بهما شرّ العين، على غرار تسميتهم الحسناء بالشوهاء،فعد أهل اللغة أنّ هذه الأساليب لا يراد بها الدعاء....ولنا أن نسأل: أ كانت العرب على هذه الدرجة من الجهل حين يستهينون ب(قتال الله وغضبه)؟ أ كانَ قتال الله أهون عليهم من عين الحاسد؟!!!!. إنّ هذا الأسلوب استجابة غير واعية الى نداء الأعماق،ذلك المخزن الثري من بقايا أسلافنا نحن بني الإنسان..... _(رابعًا):الاستطراد:أي مزاحمة المتن بمتن آخر،عبر الخروج من مدح الآخر إلى مدح الذات،بما يقتضي ذلك تجاوز إطراء الآخر بالالتفاف حول الذات ،على غرار قولنا:(يذكرني بنفسي)و(أرى فيه نفسي) والى غير ذلك.وقد كان المتنبي إمامًا في هذا الفن،فعندهُ تتجسّد الروح الوثّابة الى تمجيد الذات في الوقت الذي يمدح فيه ممدوحه المغشيّ عليه من سحر المقدمات غافلًا عمّا سيأتي بعد ،على ما يبدو هذا واضحًا في قصيدته المشهورة(واحرّقلباه)ففيها تتصارع ذاتان ملؤهما الحسد والبغض(ما من صراعهما بدُّ !):ذات الشاعر وذات ممدوحه،صراع ينتهي بانتصار الذات الشاعرة التي تسوغ ارتطامها بالممدوح بدعوى(العتاب والمقةٌ)وحين ينبه أبو فراس الحمداني ابن عمه الغافل(ماذا أبقيت للأمير؟)تنتهي محبة الأفاعي بالتجافي وطرد الشاعر،فهذا حلّ عادل يسترد به سيف الدولة ماء وجهه.وهكذا يتّجه المتنبي الى ملك مغفّل آخر،فتكون مصر وجهته،وتكون للمتنبي مع ممدوحه قصص مدحية سخيفة،من أسخفها ابتكار (فنّ التعريض)وهو من أسخف ما قدّمته سيدة الشعر الى أبنائها.
التعريض:هذا ما نتناوله في مقال آخر.
البلاغة المربكة_المدح المطعم بالذم_أنثروبولوجيا ثقافية
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع