مدونة الدكتور عمر محمد جبه جي


فقه التدرج في التشريع والدعوة والتطبيق

عمر محمد جبه جي | Omar Jabahji


23/08/2019 القراءات: 3219  


بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد المبعوث هادياً ومعلماً ورحمةً وكافةً للناس أجمعين وبعد :
لقد شاءت إرادة الله تعالى أن تنزل رسالاته متدرجة مراعاة لواقع التدرج البشري الارتقائي فقد أنزل الله للناس رسالاته بما يلائم مراحل تطورهم الارتقائي ، متدرجة تدرجاً تكاملياً ، من عهد آدم عليه السلام ، حتى بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، إذ تمم الله ببعثته المكارم والمحاسن وفضائل السلوك الإنساني ، مطابقة للتدرج البشري .
كما اقتضت حكمته سبحانه أن ينزل القرآن على نبيه منجماً مفرقاً على مدار ثلاث وعشرين سنة ولم ينزل جملة واحدةً كالكتب السماوية التي سبقته ، وكان الهدف من وراء ذلك التدرج في تربية الأمة الناشئة علماً وعملاً ، و تيسير حفظ القرآن على الأمة العربية ، و مسايرة الحوادث والطوارئ في تجددها وتفرقها ، و إجابة السائلين عن أسئلتهم عندما يوجهونها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، والرد على شبه أعداء الإسلام ، و لفت أنظار المسلمين إلى تصحيح أخطائهم وإرشادهم إلى الصواب ، و كشف حال أعداء الله المنافقين ، وهتك أستارهم وسرائرهم للنبي والمسلمين ، كي يأخذوا منهم حذرهم فيأمنوا شرهم ، وغيرها من الحكم كثير.
كما الدعوة النبوية مرت بمرحلتين : مرحلة المكية مرحلة الدعوة الأولى وإنشاء الجيل الذي يحمل الدعوة ، وهي مرحلة مواجهة فكرية عنيفة مع الشرك والوثنية ، وكانت مرحلة سلمية تركز على نشر العقيدة والأخلاق وتقلل من ذكر التشريعات ، و المرحلة المدنية وهي مرحلة بناء الدولة فاقتضت المرحلة أن تنزل القوانين والتشريعات التي تنظم أمور الدولة الناشئة في مختلف المجالات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية إلى غير ذلك .
إن دراسة المراحل التي مر بها التشريع الإسلامي ، ومراحل تنزل الآيات والأحكام ، والتدرج في إعداد الأمة الإسلامية مهمٌ جداً للدعاة إلى الله ، وللعاملين على إعادة إحياء الأمة من جديد .
إنَّ الأمم لا تتغيَّر بين يوم وليلة من منهج إلى منهج، ولكن هذا التغيير يحتاج إلى جهد جهيد ووقت مديد ، إنَّ هذا الأصل أضاعه كثير من الدعاة اليوم، ورغبوا في أنْ يغيروا المجتمع في أيام معدودات، فلم يستطيعوا ذلك؛ لأن طبائع الناس لا تقبل مثل هذا التغيير الذي يتم بين عشية وضحاها، إذ يصعب عليهم ترك حياة ألفوها واعتادوا عليها فجأة .
وبعد انتقال الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى ، استمر تطبيق القرآن وأحكام الإسلام طوال الخلافة الإسلامية على مر التاريخ إلا ما تخلل ذلك من ثغراتٍ طارئة ، وفجوات عارضة ، لا يلبث الناس فيها طويلاً حتى يعودوا إلى شرع الله ودينه ، و كانت الأمة الإسلامية تعمل بصورة عامة بأحكام الدين الذي أرسل الله به محمداً صلى الله عليه وسلم ، ضمن اجتهادات المجتهدين ، وبنسبٍ متفاوتةٍ في العصور التزاماً وتقصيراً ،حتى حل القرن الرابع عشر الهجري ، حيث تسللت إلى الأمة مفهومات وتطبيقات الغزو الفكري ، والنفسي ، والسلوكي ، وهو الغزو الذي جاءت به جيوش أعداء الإسلام وكتائبه الظاهرة والمقنعة بأقنعة مختلفة ، بأسلوب استعمار عسكري ، أو ثقافي تعليمي ، أو تحويلي سلوكي عن طريق الاختلاط الاجتماعي ، أو بطريق إملاء إرادات الدول العظمى ، أو عن طريق المتسللين المنافقين ، أو العملاء المأجورين ، وكان الجهل بالدين و بمفهوماته العقلية والعلمية و النصية والاستنباطية ، و الجهل بالعلوم الكونية والآراء الإنسانية التي توصلت إليها البشرية ، في القرون المتأخرة ، هو السمة التي اتسمت بها شعوب الأمة الإسلامية ، والدركة التي انحدرت إليها هذه الشعوب ، وحلت النكبة الكبرى باستعمار معظم البلاد الإسلامية ، وفرض المستعمر الأجنبي الغاشم الكافر قوانينه وأنظمته على بلاد المسلمين ، وألغى تدريجياً تطبيق الشريعة الإسلامية ، وأقام الحراس على ذلك ، وسمم كثيراً من النفوس لقبول أنظمته والدفاع عنها ، وتبنيها باسم الحضارة والتقدم و المدنية ، وخرج المستعمر ظاهرياً وعسكرياً ، وبقي الاستعمار التشريعي والاقتصادي والسياسي والثقافي والتربوي خلفه ، ولم يبق من تطبيق الشريعة رسمياً في معظم البلاد الإسلامية إلا أحكام الزواج والطلاق والميراث المعروفة بقوانين الأحوال الشخصية ، بينما تطبق القوانين الأجنبية المستوردة في سائر مناحي الحياة .
ومع ظهور الصحوة الإسلامية واستيقاظ كثير من المسلمين من سباتهم ،
و بدأ الوعي الديني ينتشر شيئاً فشيئاً ، وبدأت العلوم الإسلامية تشرق بنور الحق والعدل والخير والهدى ، وظهر كثير من طلاب العلم الديني المثقفين ثقافة إسلامية سليمة يرفعون أصواتهم مطالبين بالعودة إلى تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية ، ووضع قوانين الدول الإسلامية وأنظمتها بما يتفق مع أحكام الإسلام ، لكن بحماسة ساذجة ، لا تتفق مع سنة التدرج التي هي سنة الله عز وجل في الخلق وفي التشريع وفي سائر تصاريفه في كونه ، وهنا وقعت المشاكل عن حسن نية أو عن سوء نية ، واحتاج الناس من جديد إلى إقناع بالشريعة ، وإلى الحكمة من تطبيقها ، إننا إذا أردنا أنْ نقيم حياة إسلامية جديدة، وأنْ نبني خلافة إسلامية رشيدة فعلينا أنْ نسلك طريق التدرُّج في تطبيق ما اندثر من أحكام الإسلام، ولن يتم هذا التغيير الشامل الكامل بقهر أو سلطان، بل القوة في فرض الإسلام على الناس تجعلهم يبغضون الإسلام، ثم إنَّها تولد النفاق في الأُمَّة فيطبق الناس شعائر الإسلام وقلوبهم بها كافرة.


بحث فكري فقهي


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع