مدونة ناصر عبد الكريم الغزواني


بين الحضارة والمدنية "الإسلام كنموذج"

ناصر عبد الكريم الغزواني- أستاذ مشارك | Nasser El Ghuzawany


08/06/2020 القراءات: 4190  


قبل الحديث عن الحضارة والمدنية "وتطبيق ذلك على بعض الأقاليم" مع الأخذ بالنظام الإسلامي كنموذج فريد, لابد من الإشارة إلى مصطلح هام يقوم على الحضارة ويشتق منها, وهو المدينة: وضمن هذا السياق لابد من التفريق بين المفهوم الحالي للمدينة City الذي يعبر عن توافر مجموعة من مكونات تجمع سكاني من أبنية وخدمات ومرافق وإدارة ووسائل مواصلات واتصالات وغيرها من المقومات،وبين المدينة ضمن المفهوم الأوسع Policy أو دولة المدينة City State والتي تعني حكم مدينة لحيز مكاني محيطي يتراوح بين الريف المحيط والسيطرة على عدة مدن, وقد حدد أرسطو شروط قيام دولة المدينة في إطار الإمبراطورية بتوافر قيم خاصة بالمدينة ونوع من المؤسسات الضرورية ونشاط اقتصادي لسبل العيش وقوة عسكرية للدفاع عن النفس فكانت لكل "دولة مدينة " دساتيرها وقوانينها وآلهتها. ونستطيع أن نمثل لذلك أوربيا بكل من "أثينا وأسبرطة باليونان- فلورنسا وجنوة بإيطاليا – بريمن هامبورج بألمانيا " وعربيا كل من دمشق للأمويين وبغداد للعباسيين. وتشمل الحضارة سواء كانت قديمة أو حديثة جميع تلك الشواهد المادية التي تدل على سلوك الإنسان وتختلف كل حضارة عن مثيلتها من حيث المظاهر المادية المختلفة وهي تشمل جميع النظم الاجتماعية و الفكرية والسياسية والفنية وتضم نواحي الحياة جميعا من مظاهر البداوة إلي حياة القرية والمدينة. والمدنية هي شكل مادي من أشكال الحضارة وتعد بمثابة المنجزات المادية التي تتبع حضارة معينة , وعلى الرغم من وجود تداخل بين كل من الحضارة والمدنية,إلا أن ثمة اختلاف بينهما ليس في النوع ولكن اختلاف في المقدار, فالمدنية هي قمة الهرم الاجتماعي والحضارة قاعدته والمدنية موضوع فكري عقائدي منهجي والتحضر هو موضوع مادي نسبي قياسي, والموضوعان يشتركان في الحدود الجغرافية "المدينة". وتفسر الحضارة بأنها الارتفاق بوسائل التقدم المادي وتفسر المدنية على أنها المقدرة على التمييز بين قيم الأشياء والتزام هذه القيم في السلوك اليومي وتحقيق حياة الفكر وحياة الشعور, وبهذا فإن المدنية تعني الأخلاق, وبدون هذه الأخلاق لا يمكن لأي مجتمع أن يأخذ بأسباب الحضارة الحديثة وسبل تطورها والدارس لتاريخ الشعوب يدرك تنكرها للأخلاق الممارسات الفاضلة. إذا: الحضارة تقوم على الاستقرار وقيام الأنشطة المختلفة الزراعية والصناعية ولاتقوم حضارة بدون هذا الاستقرار والأنشطة, والحضارة شاملة للمدنية؛ والحضارة لها جانبان: مادي، ومعنوي ، والمدنية هي الجزء المادي منها.

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: ماهي طبيعة العلاقة التسلسلية بين كل من الحضارة والمدنية ؟ وهل تقوم الحضارة بدون مدنية أو العكس؟؟ الإجابة هنا محددة ومتوقفة على شكل الحضارة والمدنية وماهية الظروف والملابسات المختلفة, الحضارة قد لا يتبعها مدنية بالمعنى الصحيح لأسباب متعددة عرقية وطائفية وأخلاقية واجتماعية ثقافية حيث أن المدنية بمكوناتها الأخلاقية والسلوكية والمعرفية تحافظ على الحضارة ..بل وتصنعها أيضا وغيابها أو ضعفها يضع الحضارة في مأزق " كما حدث مع حضارات معينة في عدة مناطق في العالم خاصة في مناطقنا العربية التي فقدت الاستقرار الذي يعتبر وفقا لإبن خلدون شرط أساسي من شروط الحضارة" ويؤدي ذلك إلى تداعي واضمحلال الحضارة وانهيار الشعوب, ويمكن أيضا تصور وجود مدنية بدون أساس حضاري معين ولكن مع أشكال معينة من التمدن والتحضر تقود للتطور " كما هو الحال في وضع الولايات المتحدة ومناطق أخرى من العالم " , لكن هذه المدنيات التي لا تقوم على أساس قوي من الروحانية والقيم السلوكية الدينية والاجتماعية والنفسية التي تتبع الفطرة السليمة هي عرضة للإنهيار والتداعي نتيجة لسلسة متواصلة من الحيرة والأمراض النفسية والروحية نتيجة مخالفة الطبيعة والحقوق الانسانية الأساسية من خلال معرفة الخالق وفهم النفس البشرية. ومن هنا يأتي الإسلام كأبرز مثال على تكوين حضارة عظيمة من خلال أشكال بسيطة من المدنية والتحضر وداخل بيئات وحضارة صحراوية بسيطة ليس لها حظ كبير من الرقي والارتفاع...وهنا إعجاز حقيقي يفوق مستوى أي حضارة عرفها التاريخ...إعجاز لم ولن يتكرر, معجزة إلهية أن تجئ الدعوة إلى رب العالمين من صحراء قاحلة لا تعرف غير الفوارق بين العصبيات والأنساب, ومعجزة مثلها أن يجئ من تلك الدعوة حق الإنسان الذي يرفعه عمله ولا يرفعه نسبه, مهما كان هذا النسب , فلا جرم كان الإيمان برب العالمين إيمانا بحق العدل والمساواة وإيمانا بالديمقراطية التي تقوم على هذا الحق في الأرض والسماء. وإذا سلمنا أن الديمقراطية هي أساس وكيان أي حضارة, فإن ديمقراطية الإسلام لم تنبت في تربة الصحراء ولا تربة الحضارة, ولكنها كانت معجزة إلهية كمثل الإيمان بالإله الواحد الذي لا يحابي قوما لأنهم قومه دون سائر الأمم ( اليهودية) ولا يلعن قوما لأنهم ورثوا اللعنة من الآباء والأجداد (المسيحية). والأخلاق التي يهتدي إليها المسلم بهدي الأسماء الحسنى كثيرة وافية بقدر ما يتحراه الإنسان في مراتب الكمال المطلوبة ومنها العزة والقدرة المتانة والكرم والإحسان والرحمة والود والصبر والعفو والعدل والصدق والحكمة والرشد والسلام والجمال. إن أدب الإسلام يخرج للمجتمع الإنسان الكامل فيخرج له الإنسان الاجتماعي الكامل في أقوى صوره وفي أجملها.. يخرج له السوبرمان الذي لا يطغى على أحد, ويخرج له الجنتلمان الذي لا يسئ إلى أحد. ومن هنا تكون الحضارة الحقيقية.

"بعض المعلومات مقتبسة"


الإسلام- الحضارة- المدنية- التحضر- البداوة


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع