مدونة الأستاذة الدكتورة / إيمان الجمل
صورة الفلاح المصري في قصيدة " موت فلاح " لعبد الصبور شاهين
إيمان السيد أحمد الجمل | eman elsayd ahmad el gamal
03/01/2022 القراءات: 3609
لم يَكُ يومًا مثلنا يستعجل الموتا
لأنّهُ كل صباحٍ، كانَ يَصْنَعُ الحياةَ في التراب
ولم يكُنْ كدأبنا يلغطُ بالفلسفةِ الميّتة
لأنه لا يجد الوقتا
فلم يُمِلْ للشَّمْسِ رأسَهُ الثـَّقيلَ بالعذابْ
والصخرةُ السمراءُ ظَلّتْ بينَ منكبيه ثابتهْ
كانت له عمامةٌ عريضةٌ تعلوه
وقامةُ مديدةُ كأنها وثنْ
ولحيةٌ، الملح والفلفلُ، لوناها
ووجهُهُ مثلُ أديمِ الأرض مجدورُ
لكنه، والموتُ مقدورُ،
قضى ظهيرةَ النهارِ، والترابُ في يده
والماءُ يَجْري بين أقدامهْ
وعندما جاءَ مَلاَكُ الموت يَدْعوهُ
لوّن بالدهشةِ عينًا وفَما
ومدَّ للأمام ساعدًا ، وجَرَّ في عياءٍ قَدمَا
واستغفر الله
ثم ارتمى ...
والفأسُ والدرةُ في جانبه تَكَوّما
وجاء أهلهُ، وأسبلوا جفونَهُ
وكفنوا جثمانَهُ، وقبَّلوا جبينه
وغيبوهُ في التراب، في منخفض الرمالْ
وحدقوا إلى الحقول في سكينهْ
وأرسلوا تنهيدةً قصيرةً ... قصيرهْ
ثم مضوا لرحلةٍ يخوضها بقريتي الصغيرهْ
ما من أول الدهرِ، الرجالْ
من أول الزمانِ ...
حتى الموتُ في الظهيره ...تبدأ القصيدة بمحاولة جادة – محاولة نفي كل ما هو مدنيّ عن شخص الفلاح مع التعليل لهذا النفي.
فنحن أمام شخصية مختلفة، أمام رجل آخر. رجل غير الذي اعتدناه وألفناه في المدينة. رجل .. لا يتعجل الوصول إلى أي شىء أو إنهائه .. رجل لا يفني وقته فيما لا يجدي ويفيد .. رجل حدد دوره ووظيفته صنع الحياة ،التراب في يده والماء يجرى بين أقدامه.
هذا عن الخطوط المرسومة لفكر هذا الرجل وفلسفته في الحياة: صبر، مثابرة، بساطة، وعي كامل لما خلق من أجله، العمل حتى الموت . أما عن ملامحه الجسدية فهي تتسق تمامًا مع ملامحه الفكرية جثة طويلة عريضة قامة ورأسًا ووجهًا مجدورًا، رجل في مرحلة الكهولة بما تحمله من نضج وأناة وإدراك لحقيقة الحياة ..
هكذا تمضي القصيدة في رسم ملامح هذا الفلاح فنجدنا أمام لوحة تشكيلية تفصح عن هذا الإنسان الذي ارتبط بأرضه فنهل من لونها وقدرتها وتحديها وصبرها، عاش في هدوء دون ضجيج يعمل وينتظر في صمت ومات كذلك دون ضجيج وشيعه أهله في صمت. هكذا تدور الحياة من أول الزمان حتى الموت في الظهيرة. وهكذا رسم صلاح عبد الصبور صورة الفلاح المصريّ الذي فضله عن رجل المدينة، فالفلاح هو الأرض والأصالة، الإيمان والتدين، وهذا المفهوم منذ بداية التاريخ المصريّ قائم.فليس هناك من جديد أو مستحدث، فلاح عرف الإله وعرف كيف يدين له كما أدرك سرّ الحياة، وسرّ الممات .. فعاش حياة هادئة ومات موتة هادئة وقامت مراسم دفنه فى هدوء واعٍ من مجموعة تدرك وتعي المفاهيم نفسها.
لقد استطاع صلاح عبد الصبور باقتدار أن يرسم صورة الفلاح الذي هو معادل الخلود المصري .. استطاع أن يرسمه كما رآه بسيطًا عميقًا فكذلك جاء بكلمات بسيطة عميقة لا تغريب ولا إغراب ولا تعقيد ولا إلغاز .. رسمه كما رآه وارتآه بصرًا وبصيرة ،ولأن القصيدة حكاية تحكي عن فلاح مات كما عاش بسيطًا ومات في عمله وهو يصنع الحياة في التراب، فما كانت هناك حاجة إلى الإطالة فالقصة قصيرة تتكرر وعليها يعيش ويموت جميع الفلاحين في أرض مصر، ولأجل هذا أيضًا جاءت الجملة الشعرية في معظمها تقريرية.. تقريرية الحياة، تصور واقعًا على الأرض واقعًا هادئًا ؛ فلا حاجة للأساليب المتكلفة ولا حاجة لضجيج الاستفهامات والاندهاشات والتعجبات والنداءات.وإذا كان لنا أن نطرح سؤالًا يشغلنا منذ إطلالة العنوان "موت فلاح" وهو: هل حياة الفلاح هي الداعي إلى التأمل أم موته؟. أم أنها الحياة المفضية إلى الموت؟. هل انشغال صلاح عبد الصبور بالفلاح أو بموت الفلاح انشغال بذاته هو؟. هل الصورة لم تغب عن مخيلة الشاعر مع حياته المدنية التي ارتحل إليها ولكن الفلاح بداخله لم يرحل ؟. أسئلة قد تجيب عليها حكاية موت فلاح وقد لا تجيب.. أرى الحكاية دعوة كريمة من شاعرنا الفلاح إلى تأمل يثير فينا أسئلة نحتاج إليها بشدة، نتوقف عندها لأوقات ربما نفهمها وربما لا، وإذا فهمناها.. ربما ندرك الحقيقة فنعود إلى أنفسنا وإلى السرِّ الأعظم ، سرّ الوجود والفناء.على أية حال فإن المشهد القصصيّ في قصيدة "موت فلاح" بكل تفصيلاته يهدف إلى إخبارنا لا لأجل الإخبار ولا لعقد مقارنات وإنما لإثارة الدلالة لتؤدى دورها الرمزيّ في النصّ «كأن المشهد مطلوب فى النهاية لما يزخر به من ثقل رمزى يعطيه قيمة مميزة. فهو لا يملك فقط بعدًا توضيحيًا بالتذكر أو بالإخبار أو المقارنة .. وإنما أيضًا له دلالة رمزية تتخطى الوضع الخاص أو الحالة المتفردة التى يأتى فى سياقها. فكأنه التجسيم الحى والمتميز للفكرة المحورية أو للموقف الخاص الذى يتبناه القصص. وهو يأتى على هذا النحو ليؤكد الطابع التعبيرى – الأيديولوجى العام للأقاصيص»(64).
هذا الرمز أكدت عليه القصيدة لتضعنا أمام الحقيقة الوجودية التي يحياها البشر جميعًا منذ بدء الخليقة وحتى نهايتها .
وإذا كانت الحياة فى قصيدة "موت فلاح" تعرض حياة الفلاح في صورة سردية، فإنها لم تر منطقًا مقنعًا بأن الموت هو نهاية العمل من أجل الحياة، وهي مفارقة تدعو إلى الاندهاش من معنى الوجود مما يسوقه إلى الشعور بالحزن الذي نلمح أطيافه في العديد من قصائده. إن فقدان العلاقة المنطقية بين ظواهر الوجود يكون «أشد وقعًا على النفس وأعنف من مأساة ترتبط فيها النهاية –مهما كانت بشاعتها- بالمقدمات ارتباطًا سببيًّا مقنعًا»(61). والتأثر بهذه المسألة الوجودية الغربية شكَّل قصيدة عبد الصبور .
موت فلاح حقيقة الوجود
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع